الأحد، 8 فبراير 2015

عن أي حكامة يمكن الحديث داخل دولة المركز ؟ "النسق التربوي المغربي نموذجا"- محمد آيت عبو




الحديث عن الحكامة الجيدة - La Bonne Gouvernance - داخل نسق المجتمع المغربي بصفة عامة، وبنية منظومة التربية والتكوين بصفة خاصة، حديث شائك، يشترط إحداث مسافة نقدية تجاه الخطاب الذي تروج له الأجهزة الاديولوجية الرسمية ( الحكومة، البرلمان، الإعلام، المدرسة، دور الثقافة والنشرالبروكستية...)، وأنواع الخطابات الأخرى التبريرية التي تشتغل خارج إطار الدولة، أو ما يعرف بالمجتمع المدني. بل ويُشترط من الذات التي تروم بناء معرفة موضوعية (نسبية) حول هذا الموضوع، أن تأخذ بعين الاعتبار الإكراهات والمعيقات ذات الطابع السياسي، والبيروقراطي، والابستمولوجي…التي تحول بينها وبين الوصول إلى المعلومة أو نشرها أو مقارنتها قصد التحقق من صحتها وعدم مغالاتها في تزويق أو تقتيم الواقع .
إن المقاربة التاريخية للمسار الديمقراطي الحداثي الذي شهدته المجتمعات الغربية الصناعية، قمينة بكشف الشروط الموضوعية التي اختمرت وهيأت لظهور الحكامة كتمثل اجتماعي - Représentation sociale - ثاوي في البنية السيكو-سوسيولوجية -La Structure Psycho Sociale -قبل أن يتم مأسسته "L'institutionnalisation" واعتماده في المجال السياسي والاقتصادي ومجالات أخرى.
بعبارة أخرى، الحديث عن الحكامة كما ظهرت في المجتمعات الديمقراطية يبدو مشروعا بحكم التراكم الكمي والكيفي الذي حققته، وبحكم اتساق أنساقها القيمية مع القيم التي ترنو الحكامة إلى إطفاء طابع الرسمي المُمأسس عليها، مما يعني أنها (الحكامة) لم تُعطى لإحداث قطيعة مع نظم سابقة في ميدان السياسة والاقتصاد ... وإنما هي بناء أداتي انبثق لأجل دمقرطة الديمقراطية - La Démocratisation de la Démocratie - وجعلها أكثر فعالية لخدمة رفاهية الإنسان، المواطن الفاعل.
فالاشكالات التي يمكن في هذا الصدد ترجمتها إلى أسئلة أساسية نبحث فيها في شكل محاور بعد تحديد الاطار المفاهيمي لكل من مفهوم الحكامة، ومفهوم أو ما يعرف بالميثاق الوطني للتربية والتكوين… هي كالآتي :
• هل وجود الحكامة فعلي واقعي داخل بنيات منظومة التربية والتكوين ؟ أم أنها تشكل أفقا ورهانا تسعى إليه مؤسسات هذا القطاع ؟
• ما هي النصوص التشريعية والآليات التي ينص عليها ميثاق التربية والتكوين لإقرار الحكامة داخل المنظومة التربوية ؟
I. الإطار المفاهيمي:
1. الحكامة الجيدة : التعريف المعتمد من لدن هيأة الأمم المتحدة لمفهوم الحكامة حاول أن يختزل في مشمله جميع الفاعلين المساهمين في تزكية الفعل التشاركي في تدبير الشأن العام وهو كالآتي : " الاسلوب التشاركي للحكم، وتدبير الشؤون العامة الذي يرتكز على تعبئة الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين، سواء من القطاع العام، او من القطاع الخاص وكذلك المجتمع المدني، بهدف تحقيق العيش الكريم المستدام لجميع المواطنين ".
في هذا السياق لابد ان نشير للدعامات الاساسية التي ترتكز عليها الحكامة وهي :
• الشفافية كمبدأ يراعي حق الولوج الى المعلومة من طرف جميع الفاعلين والحق في نشرها.
• التشارك أو التضمينية كإلتزام مشترك يستجوب مشاركة جميع الفاعلين في تخطيط وتنفيذ السياسات التي تهم الشأن العام.
• النزاهة بوصفها نسقا قيميا يؤطر ويتثت الحفاظ على المكتسبات والممتلكات العامة واستثمارها بنجاعة.
• المساءلة باعتارها نسقا من الظوابط ترتبط بالمسؤولية لضمان التدبير الفعال للموارد المادية والبشرية وتحقيق الاهداف.
2. الميثاق الوطني للتربية والتكوين :

هو وثيقة صدرت سنة 1999 من لدن لجنة كلفت بالبحث في المشاكل والمعيقات التي تفسر الاختلالات الحاصلة في منظومة التربية والتكوين قصد تجاوزها باعتماد اصلاح نسقي يشمل جميع البنيات المشكلة لهذا القطاع.
وقد تم تقسيمها إلى قسمين :
القسم الأول: يتضمن المبادئ الأساسية وهي:

• المرتكزات الثابتة.
• الغايات الكبرى.
• حقوق وواجبات الأفراد والجماعات.
• التعبئة الوطنية لتجديد المدرسة.
القسم الثاني: يتعلق بمجالات التجديد ودعامات التغيير ويشمل ستة مجالات:

• نشر التعليم وربطه بالمحيط الاقتصادي
• التنظيم البداغوجي
• الرفع من جودة التربية والتكوين
• ألموارد البشرية
• التسيير والتدبير
• الشراكة والتمويل.
كل مجال من هذه المجالات يتضمن كما هائلا من المبادئ والبنود التي تهم سائر القضايا المرتبطة بمنظومة التربية والتكوين على كل المستويات .
3. اللاتمركز :
يحيل الى "أحد المحاور الأساسية لتحديث الإدارة وتجديد طرق تدبير المرفق العمومي، والحد من التدبير الممركز كمدخل رئيسي لإصلاح أنماط تسيير هياكل الدولة."
4. اللامركزية:
هو أشمل و يُعنى بدرجة تشتيت السلطة بين أعضاء المنظمة، أو هياكل الدولة مع الحفاظ على حق الوصاية أو ألڤيتو من طرف السلطة الأساسية.
II. المحور الأول : الحكامة واقع / رهان تنشده منظومة التربية والتكوين والمجتمع ككلية :
مع نهاية الحرب الباردة التي كان طرفي النزاع فيها يمثله كل من الاتحاد السوڤياتي والولايات المتحدة الامريكية (القطبية الثنائية)، دخل النظام العالمي في مرحلة جديدة أطلق عليها نظام القطبية الأحادية بقيادة الو.م.أ مما جعل منها قوة عالمية عظمى تفرض سياساتها على جميع دول العالم عن طريق أجهزتها السياسية وخصوصا الاقتصادية.
في هذا السياق أبدى المغرب استعداده لتحيين ترسانته التشريعية القانونية، ونظم حكمه مع ما يتفق ومبادئ السياسات الليبرالية التي تفرضها مؤسسة صندوق النقد الدولي، ومؤسسة البنك الدولي ... من اجل الحصول على القروض التنموية... وفي هذا الاطار عرف المغرب في الثمانينات قبل نهاية الحرب الباردة سنة 1991 ما يعرف بسياسات التقويم الهيكلي –التقشفية-، كما شهدت نصوصه القانونية والتشريعية طفرة نحو تعزيز منظومته الحقوقية (حقوق الانسان، المرأة، الطفل ،العمال، والاقليات...، )والواقع هو ان هذه نصوص لازالت حبيسة الورق الذي كتب عليها دون انكار وجود بعض المؤشرات الدالة على تحسن بعد الاوضاع بشكل نسبي جدا .
الذي يهم في هذا الصدد أن الحكامة هي كذلك "سياسة" دخيلة على نسق المجتمع المغربي، أملتها شروط مؤسسات اقتصادية اكراهية برّانية، تروم أهدافا اقتصادية في الاساس مغلفة باديولوجية "ديمقراطية" "حقوقية" تغري الكثير من الافراد الحالمين بمجتمع تسود فيه المساواة (تكافؤ الفرص) والعدالة الاجتماعية بين أفراده. وهذا ما يجعلها رهانا وأفقا يسعى إلى تحقيقه هذا الواقع المجتمعي (على الاقل على مستوى الخطاب الرسمي) المركب من مجموعة من المعيقات والاختلالات ذات الطابع البنيوي التحتي والفوقي.
والحال ان منظومة التربية والتكوين تعرف قصورا كبيرا هي الاخرى في الاداء والمردودية رغم الاصلاحات المتعاقبة التي شهدتها منذ الاستقلال سنة 1956. ففي التقرير السنوي الاخير لسنة 2014 ، الصادر من هيأة الامم المتحدة للتنمية البشرية PNUD ، والمعتمد على ثلات قطاعات؛ الصحة، الدخل، ثم التعليم، يكشف على ان هذا الأخير لا زال قابعا في درجة أقل من المتواسط 0.4 ، في الوقت الذي يعرف تصاعدا مهما داخل مجتمعات أخرى نامية.
لكن هذا لا يعني غياب جهود مبذولة من طرف الفاعلين السياسيين و الاقتصاديين في المجال العام والخاص و المجتمع المدني، وخير مثال على ذلك المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي أعطى انطلاقتها الملك محمد السادس سنة 2005، والتي اهتمت في مرتكزاتها الثلاث القضاء أو محاربة الفقر في الوسط القروي، والاستبعاد الاجتماعي في الوسط الحضري والهشاشة في كلا المجالين، بحيث ضمت هذه المشاريع في صلبها برامج للقضاء على الامية، وتزويد سكان بعض الدواوير بوسائل النقل المدرسية، وشراء الكتب للتلامذة المنحدرين من اوساط معوزة، واصلاح بعض المدارس المهمشة... لكن ما يعيب هذه التجربة هو غياب الحكامة في بعد المساءلة والمحاسبة كون أن الدراسات التي تقام تكون في الغالب في شكل تقارير صورية لا ترقى الى مستوى اقتفاء الاثر ومعرفة وقع هذه المبادرة على واقع الافراد المستفيدين من مشاريعها التنموية/ التربوية.
III. المحور الثاني : النصوص التشريعية والآليات التي ينص عليها ميثاق التربية والتكوين لإقرار الحكامة داخل المنظومة التربوية :

ينص الدستور المغربي الجديد 2011 في الباب الثاني عشر، من الفصل 154 الى 159 على المبادئ العامة للحكامة التي تنظم العلاقات بين جميع الفاعلين في الشأن العام، في حين يسجل وبشكل ملفت غياب مفهوم الحكامة في الوثيقة الإصلاحية التي عبر عنها الميثاق الوطني للتربية والتكوين. ولكن هذا لا يعني أن الوثيقة لم يتخللها بعض المفاهيم التي تتفق مع المبادئ التي تعتبر من مقومات الحكامة الجيدة، كمفاهيم اللامركزية واللاتمركز والشراكة التي احتوتها الدعامة الثانية ضمن القسم الثاني في المجال الأول : "نشر التعليم وربطه بالمحيط الاقتصادي "حيث جاء في هذا البند وبالحرف الواحد ما يلي : -
"لتحقيق الغاية المذكورة أعلاه ) القضاء على الامية ( ، ينبغي تبني استراتيجية وطنية متماسكة قوامها :
•دعم الهيئات الوطنية لمحاربة الأمية المكلفة بتخطيط البرامج والإشراف على إنجازها, مع اعتماد اللامركزية واللا تمركز في الإنجاز بتشجيع الشراكة المحلية بين جميع المتدخلين ؛
• تعبئة المدارس والمؤسسات التعليمية والتكوينية, والمنظمات غير الحكومية المعنية, والفعاليات المحلية, مع رصد الاعتمادات ووضع الهياكل وإحداث الآليات اللازمة لإنجاز هذا العمل الوطني على الصعيدين المحلي والجهوي".
كما تكرر نفس المفهوم في المجال الخامس الذي ارتبط بالتسيير والتدبير وبالضبط في الدعامة الخامسة عشرة حيث دعى لإقرار اللامركزية واللاتمركز في قطاع التربية والتكوين والذي سأعرضه على القارئ كما جاء في الميثاق الوطني للتربية والتكوين حتى يقف بنفسه على الآليات التي اقترحتها اللجنة المكلفة باصلاح ورش التعليم بالمغرب وهي كالآتي:

"تحدث هيئات متخصصة في التخطيط والتدبير والمراقبة في مجال التربية والتكوين، على مستوى الجهة والإقليم وشبكات التربية[…]، وكذا على صعيد كل مؤسسة، بغية إعطاء اللامركزية واللاتمركز أقصى الأبعاد الممكنة، وذلك عن طريق نقل الاختصاصات ووسائل العمل بصفة تدريجية حثيثة وحازمة، من الإدارات المركزية إلى المستويات المذكورة أعلاه، وفق ما تنص عليه المواد التالية.
146 – على صعيد الجهة، تتم إعادة هيكلة نظام الأكاديميات الحالية وتوسيعها لتصبح سلطة جهوية للتربية والتكوين، لامتمركزة ومزودة بالموارد المادية والبشرية الفعالة, لتضطلع بالاختصاصات الموكولة للمستوى الجهوي بمقتضى المادة 162 من الميثاق، مضافا إليها ما يلي :
• الإشراف على وضع المخططات والخرائط المدرسية ؛
• تتبع مشاريع البناء والتجهيز التربويين, على أن تفوض عمليات إنجاز البناء لهيئات إدارية أخرى مؤهلة, في إطار اتفاقيات ملائمة ؛
• الإشراف على السير العام للدراسة والتكوين في الجهة، واتخاذ ما يلزم لتصحيح أي اختلال في التسيير أو التأطير البيداغوجي ؛
• الشراكة مع الهيئات الجهوية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية, لإنجاز مشاريع تروم ازدهار التربية والتكوين في الجهة ؛
• التنسيق بين الممثليات الإقليمية للسلطات المركزية للتربية والتكوين في جميع الأمور التي تهم الجهة ككل، أو تهم أكثر من إقليم ؛
• الاضطلاع بتدبير الموارد البشرية على مستوى الجهة, بما في ذلك التوظيف والتعيين والتقويم ؛
• الإشراف على الامتحانات والتقويم والمراقبة على مستوى الجهة وما دونه ؛
• إعداد الدراسات والإحصائيات الجهوية ؛
• الإشراف على البحث التربوي ذي الطابع الجهوي ؛
• الإشراف على تنظيم التكوين المستمر السنوي ؛
• الإشراف على النشر والتوثيق التربويين ؛
• تزويد السلطات الوطنية بالتوصيات المناسبة والرامية إلى ملاءمة برامج التربية والتكوين وآلياته لحاجات الجهة في حالة تجاوز هذه التوصيات لاختصاصات الجهة المعنية.
على مستوى تنظيم السلطات الجهوية للتربية والتكوين وتسييرها, تتخذ الإجراءات التالية :
أ – يشارك لزوما في مجالس الأكاديميات الجهوية ولجانها المختصة ممثلون عن كل الفاعلين في القطاعين العام والخاص للتربية والتكوين وعن شركائهم,
ب – يمنح للأكاديميات استقلال التدبير الإداري والمالي، وترصد لها ميزانية تتصرف فيها بشكل مباشر، وتراقب عليها طبقا للقوانين الجاري بها العمل,
ج – تحدث أجهزة دائمة للتنسيق بين الأكاديميات من جهة, والجامعات والمؤسسات التقنية والتربوية المرتبطة بها, من جهة ثانية,
د - يراعى في اقتراح تعيين المسؤولين عن الأكاديميات توافرهم على شروط المقدرة التربوية والإدارية والتدبيرية.
147 – على مستوى الإقليم، يتم تعزيز المصالح المكلفة بالتربية والتكوين، من حيث الاختصاصات ووسائل العمل، كما يعزز التنسيق بين مختلف مكوناتها، باتجاه إدماجها الكامل. ويناط بالسلطات المركزية للتربية والتكوين التحديد الفوري لجميع الاختصاصات والأطر والوسائل الممكن نقلها مباشرة إلى المصالح الإقليمية.
وتعمل المصالح الإقليمية للتربية والتكوين, في صيغتها اللامتمركزة والمنسقة، تحت إشراف هيئة إقليمية للتربية والتكوين تشكل على غرار الهيكلة الجديدة للأكاديميات الجهوية المشار إليها في المادة 146 أعلاه، لتضطلع بمهام توجيه المصالح الإقليمية وتقويم عملها وأدائها في كل مجالات التخطيط وتسيير مرافق التربية والتكوين وكذا التقويم التربوي على مستوى الإقليم.
148 – يشرف على كل شبكة محلية للتربية والتكوين مكتب للتسيير, يتكون من مديري المدارس والمؤسسات المرتبطة ضمن نفس الشبكة، وممثلين عن المدرسين وآباء أو أولياء المتعلمين، وعن الهيئات المهنية المحلية. ويضطلع هذا المجلس بمهمة الإشراف المستمر على إعداد البرامج الدراسية وتنفيذها، وتنسيق انتقالات التلاميذ والمدرسين بين المؤسسات المنضوية تحتها. وتقوم سلطات التربية والتكوين بتحديد نظام عمل مكاتب التدبير وتطويره، في إطار التوجه اللامركزي واللامتمركز, موازاة مع التقدم في إنشاء الشبكات المحلية للتربية والتكوين وتراكم تجاربها."
يمكن اعتبار هذه الاليات والمهام الجديدة التي أنيطت للفاعلين الجدد، من الاساليب التدبيرية التي تقوم عليها الحكامة، فالاقرار بضرورة تعزيز مكانة جميع الفاعلين في الحقل التربوي، والقطع مع اشكال التدبير المتمركز… جميعها تصب في صلب الحكامة. لكن الواقع يشتغل بمنطقه الخاص، والكلمات تسطر بمنطق مسطرها الخاص، حيث ان هذه الهيئات والاليات وبعد أكثر من 14 سنة من إنشائها ضلت مجرد منشئات لم تستوعب بعد وظيفتها الاساسية، بل ان اللاتمركز واللامركزية الذي اقرهما الميثاق، نادرا ما لا يخترق من طرف المركز الذي لم يستدمج بعد قيم الحكامة المتمثلة في التشارك و حق الولوج الى المعلومة والتفويض والتنسيق... ففي الواقع لازالت ذهنية الوصاية والتحكم هي المسيطرة، ولا زال من هو في المركز ينظر لمن هو في الهامش نظرة استعلاء تنسف كل هذه المفاهيم التي افرزتها ثقافة تشبعت بقيم الديمقراطية كما اسلفت الذكر.
أختم بما جاء في التقرير الذي اصدره المجلس الأعلى للتعليم في نهاية عشرية التربية و التعليم، ورغم التسييس الذي طبعه، فقد ارجع اسباب فشل تنزيل الميثاق الوطني للتربية و التكوين لإشكالية الحكامة في المقام الاول، لتليها متغيرات مستقلة أخرى ذات طابع مالي و بيداغوجي.

محمد آيت عبو
20/1/2015

السبت، 17 يناير 2015

الانسان والفلسفة - محمد آيت عبو

ليس جميع من ينتمون لنوع الانسان مؤهلون لتحصيل نظرياتها خصوصا وأنهم معرضون للاستيلاب من اليومي والاديولوجي ومتغيارات أخرى قد تكون في مشملها ثقافية. لكن دور الفلسفة الأساسي (من وجهة نظري) هو تزويد الانسان "الحيوان" وبما له من استعداد قبلي (بيولوجي) بأواليات الاشتغال على الواقع ومع الواقع، في أبعاده المتعدد المتجاوزة للحدود التعسفية التي يقيمها فكر البعد الواحد، بين الحقيقي/ والوهمي، الواقعي/والمتخيل، المقدس/والدنيوي... هذه الأواليات يمكن تشبيهها بخلايا نائمة تنتظر تحفيزا خارجيا لتنشط وتتكاثر، كونها في الواقع معطى واستعداد بيوسيكولوجي قبلي ثاوي في بنية دماغ هذا الكائن الاكثر تطورا وتعقيدا مقارنة بأدمغة أفراد عائلته الباقون من القردة العليا وعالم الحيوان بصفة عامة.
إن دور الفلسفة هو تعزيز هذا التطور وتتويجه بعمليات ذهنية غاية في التعقيد تتمظهر في استعماله للغة ٱستعمالا فكريا تجريديا يؤثر في الواقع ويتأثر به. إن وظيفتها هي الخلق، خلق يتم عن طريق تحليل وتركيب عناصر بسيطة من الواقع المجرد بلغة طبيعية بسيطة ليصبح فكرا يعطي معاني مختلفة للوجود وعشوائته، وشرعية للحياة رغم محدوديتها وتفاهتها..

لكن هذا وغيره كما ذكرت لا يمكن أن يتم بغياب تحفيز واعمال تلك الميكانزمات التي يقوم عليها كل شيء في الفلسفة، وبها كذلك يمكن تقويض ونسف كل شيء حتى هذه السطور التي كُتبت؛ انها وبكل بساطة ; الشك، والدهشة، والسؤال. إن هذا الثالوث، هو ما تقوم عليه الفلسفة وهو ما تقصده (على الاقل من وجهة نظري) فعندما تستعمله ولا يستعملك، تكون في الواقع قد أخدت خطوات عظيمة في طريق الفلسفة، وهنا يتجلى عمق الفلسفة كونها تستدرجك لطريقها التي هي فيك وليست خارجك، والتي هي أنت وليس ما يجب ان تكون عليه، عكس حقول معرفية أخرى علمية و غير علمية تشترط فيك معايير محددة حتى تشهد لك باهليتك أو ٱعتناقك.

ان الفلسفة هي شك يتم داخل الذات وفي الذات، يوجهه سؤال حول موضوعات أنتجتها الطبيعة والثقافة، لكن هذا لا يحدث بمعزل عن الدهشة التي تطبع الذهن اليقض المتعجب من كثرة العناصر التي لا يجد لها معنى ويبقى يحاول الامساك بشيء ما، حتى يكتشف ان المعنى الاصيل هو أن يسأل في وقت تتوفر فيه الاجوبة، ويشك في وقت يسود فيه الايمان، ويندهش في وقت يبدو كل شيء فيه مألوفا.

في الواقع ليس غريبا أن يتهم هذا الفكر الذي يقوم على هذا الثالوث بزعزعة "النظام"، (بكل ما للكلمة من دلالات واسعة) خصوصا من طرف النظم التي تستمد شرعيتها من الكلمات وليس من الارادة الحرة للمجمع المتشكل من صنف هذا الانسان، الانسان العاقل.

كما ان الفكرانيات الدوغموية التسلطية الممارسة والمحترفة للعنف الرمزي المستعبد للانسان والتي لاتغدو تكون مجرد كلمات مشكلة لصور طوبوية غارقة في الأوهام تفرض بالقوة ادعائها وتقصي كل من يستعمل هذا الثالوث المدنس في اعتقادها بل وتعده سبب الانحلال والشر الذي طال وسيطول الانسان، في الوقت الذي كان هو وليس غيره سبب الرقي الحضاري والثقافي والخير الذي شهده ويشهده الانسان.

أختم بسؤال يؤرقني : هل يستأهل من لا يندهش، ولا يشك، ، ولا يسأل من وفي ذاته و وجوده ووجود كل هذه الاشياء الاخرى، هل يستأهل ان يدعى انسانا / حيوانا عاقلا ؟


محمد آيت عبو
16/01/2015

الجمعة، 5 ديسمبر 2014

الدّين والفلسفة . أية علاقة ؟- محمد آيت عبو


العلاقة بين الدّين والفلسفة :

هناك تقاطع بين الدّين والفلسفة في مسألة ذات أهمية قصوى عند الانسان. فهذا الكائن المتميز بخاصية الوعي، يدرك بشكل قبلي محدوديته في الزمان والمكان، التي تتجلى بشكل صارخ في ظاهرة الموت. وعيه هذا بأنه سيموت، وأن وجوده مؤقت، يجعله يطرح أسئلة ذات طابع وجودي محض، حاول ولا يزال يحاول أن يجد لها أجوبة تقيم حدّا بصفة نسبية لقلقه الناتج عن تواجده في عالم لا يعرف طبيعته، ولا أين يذهب به، أو لماذا هو متواجد فيه ؟

إن الدّين والفلسفة، يحاولان أن يجيبا على هذه الاسئلة الوجودية، بطريقتين مختلفتين جدريا بحثا عن الخلاص من الألم، من الجهل، من الموت، من أشكال الاستيلاب والرضوخ لقهر الطبيعة في بعدها المادي وماواراء المادي (الميتافزيقي).

يقدم الدّين نفسه على أساس أنه ذلك المخلص للانسان، من أهوال هذا الوجود في بعده الطبيعي وماواء الطبيعي. بحيث يعلنها صراحة لأتباعه أنه قادر أن يضمن لهم السعادة في حياتهم، والخلود بعد موتهم.

إن الدّين لا يخفي حسمه في هذه المسألة، و قناعته بأنه هو وحده القادر على ضمان الخلاص للانسان .بل إن الدّيانات بكل تنوعاتها واختلافاتها تحمل في جوهرها فكرة واحدة، وهي أن يؤمن انسان بما جاء به إنسان آخر إليه، ألهمته قوى غيبية، فوق طبيعية، خارقة... برسالة وجب أن يوصلها له بأسلوب الترغيب والترهيب، مع ضرورة إلزام المرسل إليه بمحتواها المتضمن لنسق من الظوابط التي تعمل على تشكيل وعيه وتنميط سلوكاته.

أما الفلسفة فهي لا تؤمن، بل تشك. تشك في الآخر و خطابه ولو ٱدعى أنه قام باتصال مباشر أو غير مباشر مع الآلهة. فالفيلسوف حينما يتفلسف يكون تفلسفه موجها لهدم جميع الأنساق الفكرية التي سبقته لأنها ليست ما يحقق له ذلك الاكتفاء المعرفي والوجداني الذي يحد من قلقه. فتجده يوجه السؤال، والشك، والنقد لكل ما يمكن أن يغريه بتبنى موقف فلسفي وجودي لم يشارك في بناءه. وحتى إن اقتنع بما جاء به الآخر، تجده يأخذ الجزء ولا يستدمج الكل في تصوره الكلي للوجود، وكيفية تحقيق خلاصه. لهذا السبب وغيره، نجد الفلسفة أكثر الحقول المعرفية تنوعا واختلافا. تختلف من فيلسوف لآخر، ومن حقبة زمنية لأخرى. وهذا راجع كما ذكرت كون أن كل فيلسوف يحاول بنفسه (وليس بواسطة الآخر) أن يبني حقيقته، سعادته، خلاصه الخاص .

فالعلاقة بين الدّين والفلسفة هي في الواقع علاقة صراع حتمي، تفرضه السبل المختلفة لكل منهما في تحقيق هذه الغاية السامية، خلاص الانسان.

لكن ! قد يقول قائل ماذا عن الفلسفة المسيحية والفلسفة الاسلامية ؟ 

أليست هذه فلسفات ؟


الإجابة على السؤال نجدها في تاريخ هذه "الفلسفات" وفي الصراعات الثاوية في المتغيرات الموضوعية التي كانت في تلك الاحقاب. فالمسيحيون لم يتفلسفوا، بل تعاملو مع الفلسفة بسلوك انتقائي خدم مصلحة دينهم، في وقت كان يصعب على ثقافات أخرى أن تتثاقف مع المعتقد المسيحي، والامر سيان عند المسلمين. هذا الأمر جعل الفلسفة في مرتبة ثانية أو لنقل خادمة للدّين. في حين أنها لا ترضى سوى أن تكون سيدة، لأنها ترى في نفسها صاحبة الشرعية والاهلية في تعليم الحياة، وتربع عرش سلم التراتبية القيمية داخل بنية الانسان الفكرية والاجتماعية .


الجمعة، 28 نوفمبر 2014

حول اضطهاد المرأة – خليد العوني


الأسرة هي الخلية الأساسية المكونة للمجتمع وتقوم بوظيفتين أساسيتين؛ وظيفة بيولوجية ووظيفة ثقافية: وتتمثل الوظيفة البيولوجية في إعادة إنتاج الجنس البشري، هذا في الوقت الذي تتجلى فيه الوظيفة الثقافية في تعليم الأبناء لأسلوب الحياة الذي تحدده الأطر الاجتماعية داخل المجتمع. ويعرف عالم الاجتماع البريطاني «أنتوني غيدنز» في كتابه «علم الاجتماع» التنشئة الاجتماعية بأنها “العملية التي يتعلم بها الأفراد -home-honazarq-public_html-wp-content-files_mf-cache-047ec52e72cc91e89fdee2c649c19d9c_138667117516161925112013_15والأعضاء الجدد في المجتمع أساليب الحياة في مجتمعهم”. غير أن أساليب الحياة ليست واحدة بالنسبة للجنسين معا؛ فالرجل سيد المجتمع المحتكر للمال والسلطة  وصاحب النفوذ في الفضاءات العامة، بينما أسلوب حياة المرأة يجعل منها  عبارة عن موضوع يتم تغييبه باستمرار دون أن يجسد لأي حضور من شأنه أن يساهم في تحقيق نوع من المساواة نظرا للهيمنة الذكورية المترسخة في الضمير الجمعي الذي يمارس سلطته القهرية على المرأة فيؤدي إلى تعثر محاولات نهوض المجتمع.

وتتلقى المرأة منذ صرختها الأولى تنشئة تحدد لها أدوارها الاجتماعية التي إذا لم تتشبع بها فتتمثلها تصورا، وتجسدها سلوكا، تؤدي إلى اعتبارها منحرفة عن النماذج الاجتماعية فيسلط عليها أحيانا العنف المادي لتقويم اعوجاجاتها وأحيانا أخرى العنف الرمزي ليفرض عليها التطابق مع الصورة النموذجية للمرأة في متخيل الحس المشترك. إن توافق المرأة الاجتماعي يتطلب خضوعا مستمرا وحده الكفيل بضمان انتزاع هويتها عن جدارة واستحقاق باعتبارها امرأة ونصف !

فما هي أشكال خضوع المرأة كزوجة؟ وهل يتوجب عليها، وبالضرورة، الخضوع للزوج كشرط يتوقف عليه أداء الأسرة لمهامها على أتم وجه؟ كيف تساهم الثقافة الشعبية والتمثلات الدينية الخاطئة في تشكيل هذا الوضع وتكريسه؟ وما هي انعكاساته على المرأة، الأسرة، والمجتمع؟ وهل العلاقة الزوجية؛ علاقة هيمنة أم تعاون؟ وكيف يمكن تأسيس علاقة زوجية تقوم على التفاهم والتعاون بدل الاحتواء والإقصاء؟

 

تعتبر المرأة كائنا إنسانيا من الدرجة الثانية تتوقف حياته على وجود الرجل «الإنسان العاقل والعامل»الذي تجتمع فيه صفات الكمال خلافا للمرأة التي تتجسد فيها صفات النقص؛ ويصبح لزاما عليها وفقا لهذا المنظور أن ترضي الرجل .ودور المرأة كزوجة يهيمن على تفكيرها ويعتبر شغلها الشاغل الوحيد والأوحد خشية «العنوسة» وهذا ما يعكسه لنا المثل القائل: “الهم هم العزبة، أما العزري يتزوج دابا”  ليعبر بذلك  تعبيرا صريحا عن كون العنوسة تعتبر وصمة عار على جبين الأنثى سواء اختارت هذا الوضع أو فرض عليها فهي مدانة في جميع الحالات. إن خضوع الزوجة للزوج يشكل رهانا مجتمعيا تجند لتحقيقه كل الإمكانات والمؤسسات؛ فالمرأة النموذجية هي تلك الزوجة الخاضعة لهيمنة الزوج، وتأخذ الهيمنة شكل قوامة ووصاية على المرأة في جوانبها المادية والرمزية؛ المتمثلة أساسا في تقييد الجسد وتنميطه ، حصر حركة الزوجة داخل الفضاءات المغلقة ومنع اختلاطها بالأجانب، تبعية الزوجة المادية للرجل، تعرض الزوجة بشكل يومي لعنف رمزي يأخذ شكل عنف لفظي جارح حاط بالكرامة الإنسانية… والواقع أن مختلف أشكال الاضطهاد الذي تتعرض له المرأة لها أساس اقتصادي، فإذا قارنا واقع مجتمعاتنا بالمجتمعات الغربية التي تحررت فيها المرأة، إلى حد ما، نجد مساهمة فعالة للمرأة في مؤسسة الأسرة إضافة إلى الفضاءات العمومية المختلفة التي تشهد حضورا قويا لهاته الأخيرة، كما يبدو ذلك -نوعا ما- إذا قارنا داخل مجتمعاتنا بين واقع المرأة التي أتيحت لها فرصة التعليم وواقع المرأة الأمية الفاقدة للمعرفة والسلطة والثروة والتي تتمتع بمكانة دونية داخل الأسرة خلافا للمرأة المتعلمة أو العاملة. وهذا لا يعني، طبعا، أن المرأة العاملة تسلم من ويلات العنف الرمزي حينا والمادي أحيانا أخرى في ظل استمرار الهيمنة الذكورية وكذلك بالنظر لقوة البنية الخفية التي تعيد إنتاج الواقع باستمرار. وإذا أمعنا النظر في الدراسات التاريخية سنجد أن خضوع الزوجة لزوجها ليس أمرا حتميا وطبيعيا فرضته طبيعتها الأنثوية بشكل مطلق وإنما لهذا الخضوع أساسه الاقتصادي المرتبط باحتكار الرجل للمال والسلطة وهيمنته على الفضاء العام الذي أقصيت منه المرأة في انقلاب تاريخي ظهرت فيه الملكية الخاصة؛ ليؤدي هذا الوضع الجديد إلى تكوين نظرة دونية تكرس واقع المرأة العورة وتساهم في طمس جوانبها الإبداعية الخلاقة.

ثمة من يدافع دفاعا شرسا عن أطروحة مفادها أن الأنثى مهيأة بيولوجيا لخدمة الرجل وأن أدوارها تقتصر بشكل أساسي على الإنجاب والتربية نظرا لنقص في صفاتها، لكن المعطيات التاريخية تدحض هذا الطرح ويتبين لنا في كتاب «أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة» الذي استند فيه « فريديرك إنجلز» إلى أبحاث الأنثروبولوجي «لويس مورغان» أن المرأة كانت متساوية الحقوق والواجبات مع الرجل في المشاعة البدائية، وخلال هذه الفترة انعدم الاضطهاد نظرا لسيادة الانتاج الاجتماعي للعمل بشكل جماعي لم يأخذ طابع استغلال طبقة لطبقة أخرى أو استغلال طرف لطرف آخر؛ وهذا يفسر بانعدام الأسس المادية التي سيؤدي بروزها في مرحلة لاحقة إلى ظهور علاقات اجتماعية تقوم على الإخضاع والاستغلال. لقد كانت المرأة تشارك إلى جانب الرجل في الإنتاج الاجتماعي الذي يضمن بقاء الجميع وبانتقال المجتمع من «اللاطبقية» إلى «الطبقية» بدأ اضطهاد المرأة؛ لقد أدى اكتشاف الزراعة وتدجين الماشية وظهور تقسيمات جديدة في العمل والتجارة، ووجود فائض للإنتاج إلى اغتناء البعض على حساب السواد الأعظم من الناس، وبحكم أن المرأة مهيأة بيولوجيا للإنجاب أصبحت ملكية خاصة للرجل إلى جانب أملاكه الأخرى كالماشية والعبيد؛ فأصبح تملك الرجال للنساء إحدى أسس النظام الجديد الذي ظهرت فيه العائلة «البطريركية»  فانقسم المجتمع إلى طبقات متناحرة لتظهر الدولة بمؤسساتها وإيديولوجيتها لتبرير هذا الاضطهاد ولشرعنة اللامساواة…و يتبين لنا من خلال التفسير المادي-الاقتصادي أن خضوع الزوجة للزوج ليس وضعا طبيعيا وأنه مرتبط بانقلاب تاريخي يبين لنا أن الخضوع لسلطة الرجل ليس شرطا يضمن استمرار مؤسسة الأسرة وتحقيقها لأغراضها التنشئوية. حيث أن الأسرة كانت في وضع سوي في مرحلة لم تكن فيها الزوجة خاضعة لسلطة زوجها بشكل مطلق. بل إن المجتمعات الأميسية كانت تحظى فيها المرأة بمكانة اعتبارية داخل المجتمع.

      مساهمة الثقافة الشعبية والتمثلات الدينية الخاطئة في تكريس النظرة الدونية للمرأة المتزوجة

تعتبر الحياة الفكرية للمجتمعات انعكاسا للأساس الاقتصادي، غير أن هذا الأساس تربطه علاقة جدلية بعالم الأفكار التي تملك من القوة والرسوخ ما يجعلها تتجسد كمواقف وأفعال على أرض الواقع؛ وللأفكار عدة تمظهرات تتجلى في الثقافة الشعبية، الثقافة العالمة، الدين، الإشهار، الإعلام… إلخ. وسنشير بإيجاز شديد إلى سلطة المثل على المرأة ومدى مساهمة رجال الدين، عبر سلطتم الرمزية باعتبارهم مالكين للمعنى كما هو شائع لدى الحس المشترك، في تكريس اضطهاد المرأة داخل الأسرة وإعادة إنتاج وبناء هذا الوضع باستمرار…

تعكس لنا الأمثلة الشعبية واقع المتخيل المغربي حول المرأة، هذا المتخيل الذي يتم تشكليه وبناؤه بواسطة الثقافة التي تعكس لنا التناقضات الذاتية والموضوعية الموجودة داخل المجتمع. وللمثل الشعبي حضور قوي في المعيش اليومي للمغاربة ويساهم في بلورة رؤيتهم للمرأة داخل مجتمع تبنى فيه عبر الثقافة وسلطة الرموز صورة المرأة الطيعة الخاضعة للأمر الواقع. ويعبر هذا المثل “الراجل ما يتعاب” عن حضور خارق للرجل،  بينما المرأة لا تمثل شيئا بدون رجل كامل الصفات والمواصفات، هذا في الوقت الذي ليس فيه أمام الأنثى خيارات كثيرة: الزواج أو الموت فلا حياة بدون زواج! فـ”البنت إما راجلها وإما قبرها” . وتتجلى الهيمنة الذكورية في مثل آخر ورد على شكل نصيحة تتوارثها الأجيال بقدر حرصها على توارث الأموال، يقول هذا المثل؛ “بنتك لا تعلمها حروف ولا تسكنها غروف” كتعبير عن خوف جمعي من تعليم المرأة مخافة أن  تتحول معرفتها إلى سلطة رمزية تخلخل السائد لتؤدي إلى اقتحامها الفضاءات العامة المهيمن عليها من طرف الرجل، لأن “المرا اللي تطوف ما تغزل صوف” و يشرعن هذا الاستغلال بزعم مفاده أن الأمر يتعلق بدفاع عن شرف المرأة ! وإذا كان إحساس المرأة بالدونية والنقص يلازمها منذ طفولتها فإن الزواج يعتبر تعويضا لها عن النقص وتحقيقا لكمال مفترض ولو كان مهينا جارحا إذ نجد في مثل آخر أن الرجل “كان مهني وشرى معزى، كان عزري وقام يتزوج” هذا الزواج الذي يجعل من المرأة سيدة المنزل النموذجية بغض النظر عن شكلها أو صفاتها لأن “المرا عمارة ولو تكون حمارة” ! وذلك، طبعا، شريطة الامتثال للمعايير الاجتماعية الصارمة.

بدورها تساهم التمثلاد الدينية الخاطئة في تكريس صورة سلبية عن المرأة يعاد تشكيلها ترتبط بالغواية والفجور والنقص والاعوجاج لذلك فهي لا تستقيم إلا بالضرب لتقويم اعوجاجاتها ويمثل الرجل حارس المرأة الأمين والحامي الوحيد لها.

هذا الوضع تنتج عنه آثار سلبية، وغاية في الخطورة، كالسوسة التي تنخر المجتمع برمته لأن سيكولوجية المرأة المضطهدة تختزل، في جانبها الذاتي، في تكوين المرأة لصورة سلبية ودونية عن نفسها… واعتبارا لاحتكاك الأم بالأبناء بشكل مستمر فإنها تنقل مشاعر النقص إلى نفسياتهم وهذا ما يؤدي اغترابهم و فشلهم في تحقيق التوافق الاجتماعي. إن الأسر التي تضطهد فيها المرأة معرضة للتفكك الأسري وما يقترن به من حرمان سيكوسوسيولوجي… فينتج عن هذا الوضع غير الطبيعي ارتفاع معدلات الطلاق، العنف الزوجي، والعنف الرمزي… دون إغفال نواتج هذا التفكك على الأبناء المعرضين للانحراف بمختلف أشكاله… إن الأسرة المغربية، حاضرا، تعيش واقعا مأزوما يتطلب القيام بدراسات سوسيولوجية لتشخيص وضعها نظرا لأثره العميق والخطير على المجتمع المغترب لأن الأسرة هي الخلية الأساسية داخل المجتمع التي تمده بأفراد وأعضاء غير متوازنين نفسيا ويتعذر عليهم تحقيق التوافق الاجتماعي الذي يتوقف عليه تطور المجتمع.

      علاقة هيمنة أم علاقة تعاون؟

إذا كان الزواج توافقا وتراضيا بين طرفين فإن أية علاقة زوجية تتناقض مع هذا المبدأ معرضة للانهيار، كما أن استمرارها، بما يتعارض مع هذا المبدأ،  يكون على حساب فعالية الأسرة والمجتمع… والتحرر من الصور النمطية السلبية حول المرأة من شأنه أن يؤسس لحياة نموذجية داخل مؤسسة الأسرة تقوم على أساس المساواة في الحقوق والواجبات وهو مالا يمكن أن يتحقق إلا إذا تمت معالجة خضوع الزوجة للزوج: ماديا-اقتصاديا، ثقافيا، وسيكولوجيا… وهي عملية تتطلب تحرر المجتمع وبدون ذلك سنجد أنفسنا أمام أسر معطوبة ومجتمع يمشي مشية الأعرج ويحاول جاهدا النهوض ونصف قواه معطلة !

الأربعاء، 22 أكتوبر 2014

فوائد القراءة


ترجمة Raphael Lysander

الثلاثاء، 1 يوليو 2014

مقاربات علم الاجتماع الوظيفي والنقدي لوسائل الإعلام ـ آمال موسى

يصنف علماء الاجتماع وسائل الإعلام في خانة تصنيف أطر التنشئة الثانوية خلافا لمؤسستي الأسرة والمدرسة اللتين تنتميان إلى أطر التنشئة الاجتماعية الأوليّة والأساسيّة. وبذلك تكون وسائل الإعلام محدّدا مهما من محدّدات تنشئة الأفراد اجتماعيا حتى وإن كانت هذه الأهمية ثانوية وتشترك في الدور والوظيفة مع أطر اجتماعية أخرى مثل أصدقاء الجيل ودور العبادة وغيرهما. ونفترض أن قوة البعد الاجتماعي للعملية الاتصالية والإعلامية والوظائف الاجتماعية المهمة، التي تقوم بها وسائل الإعلام على غرار التنشئة الاجتماعية (la socialisation) والاندماج الاجتماعي (lصintégration sociale) ، هي التي أعطت المشروعيّة العلميّة السوسيولوجيّة لقيام فرع داخل علم الاجتماع العام يسمى: علم اجتماع الإعلام.

ولكننا إذا أضفنا إلى هذا الاعتبار، تلك الحيرة المعرفية التي انطلقت مع بداية القرن العشرين والتي شهدت تساؤلات جديّة حول الماهية الجديدة للمجتمعات وأثر وسائل الإعلام الجماهيرية في التغييرات التي عرفتها ماهية المجتمع الحديث وما مصداقية ما يسمى المجتمع الجماهيري ثم وصف مجتمع المعلومات، إذا ما أضفنا عامل هيمنة وسائل الإعلام اليوم على الحياة اليومية للأفراد والمجتمعات، إلى أي حدّ يمكن القبول بالتصنيف السوسيولوجي لوسائل الإعلام الجماهيرية كمؤسسات للتنشئة الاجتماعية الثانوية؟ 

لقد خيّرنا استهلال هذه المقالة الأوليّة والاختزالية بطرح تساؤل نعتقد في مشروعية التفكير فيه بالرغم من أنه لن يستأثر إلا بعنصر من عناصر تحليلنا، على اعتبار أن مشروعيته كتساؤل يستند إلى مؤشرات تدعمه(1)، ستجد صداها عند مقاربة مكانة وسائل الإعلام من منظور التحليل البنائي الوظيفي وأيضا النظريات النقديّة التي تهتم بالتأثيرات الاجتماعية لوسائل الإعلام وكيف أنها تخدم العلاقات الاجتماعية القائمة أكثر على التنافس والصراع والهيمنة وذلك مقارنة بخصائص البناء الاجتماعي المنظور إليه بنيويا ووظيفيا من زاوية التعاون والانسجام.

كما أن اختيارنا لهذين الباراديغمين(2) أساسا لا يعني إغفالنا مثلا لباراديغمي الفردانية المنهجية والتفاعلية الرمزية حيث يمكن الاعتماد عليهما في نقد النظرتين. مع العلم أن التركيز على النظرية البنائية الوظيفية(3) والمدرسة النقدية يعود إلى أن كلتا النظريتين قد اهتمتا تاريخيا بمسألة وسائل الإعلام الجماهيرية كنظم اجتماعية إضافة إلى أن معظم الأبحاث ونماذج الاتصال العلمية المتعلقة بوسائل الاتصال والإعلام، هي ذات خلفية وظيفية أو نقدية أو الاثنين معا.

لذلك، فإن هذه المقالة ستستعين في تحديد كيفية تصور النظرية البنائية الوظيفية والنظريّات النقدية ليس فقط بالأسس الفكرية العلمية للنظريتين، بل وأيضا ببعض نظريات الاتصال التي رأينا مشروعية توظيفها في تحليلنا وذلك مثل نظرية الاعتماد على وسائل الإعلام ونظرية الاستخدام والإشباع ونظرية ترتيب الأوليات ونظرية الغرس الثقافي وبعض نظريات التأثير.

فكيف يمكن أن نفهم ونفسر وظيفة أو وظائف وسائل الإعلام وتأثيراتها المختلفة في المعيش اليومي للأفراد والمجتمعات عموما (مع بعض الإحالات القليلة على المجتمعات العربية)، من خلال محاولة تطبيق الأسس الجوهرية لنظريتي البنائية الوظيفية والنقدية، وهل من الممكن أن نخلص بعد ذلك إلى التلويح بأهمية فكرة مراجعة التطبيق السوسيولوجي لوسائل الإعلام واعتبارها من مؤسسات التنشئة الاجتماعية الأوليّة؟ 

يُعرف دينيس ماكويل (D. Mcquail) وسائل الإعلام بأنها مؤسسات تهتم بإنتاج المعلومات والأفكار والثقافة وتوزيعها على الناس تلبية لحاجياتهم الاجتماعية(4) وهي أيضا «الأجهزة الأساسية للعلاقات الاجتماعية»(5).
كما أنها- أي وسائل الإعلام- «الأداة الرئيسية لعملية الإعلام بكل خطواتها بدءا من اختيار الفكرة وصياغتها في رسالة ذات محتوى وشكل معين إلى أن نصل إلى جمهور المتلقين لتحقيق وظائف أو غايات معينة ذات علاقة بالفرد والمجتمع»(6).

واستنادا إلى هذه التعريفات المتقاربة، يبدو البعد السوسيولوجي لوسائل الإعلام حاضرا بقوة. فهي نظم اجتماعية تحتكم إلى ما تحتكم إليه أجزاء النظام الكلي من وظائف وعلاقات متبادلة، ناهيك عن دورها في تحقيق ما يسميه اميل دوركايم(Emile Durkheim) مبدأ التساند الوظيفي. وقد حدّد بعض خبراء الاتصال والإعلام وسائل الإعلام الجماهيرية بأنها «مجموعة الوسائل والأدوات التي تسهل عملية النشر والتوزيع على نطاق واسع»(7)، علما بأن وسائل الإعلام التي نركز عليها في هذه المقالة إنما هي الصحافة المكتوبة والصحافة السمعية والبصرية(8).

1) البنائيّة الوظيفيّة: كليّة النسق والتكامل الوظيفي

تقوم النظرية البنائية الوظيفية ( Structuro-Fonctionnaliste) التي ظهرت على يد البريطاني هربرت سبنسر (Herbert Spencer) (1903-1820) على الجمع بين مفهومي البناء والوظيفة مع تأكيد ترابطهما المنطقي والآلي.
فهي نظرية توفيقية تُوظف مفاهيم البنائية والوظيفية قصد الترفيع من سقف إمكانات فهم المجتمع وما يتضمنه من وحدات ونظم وأنساق فرعية وما يستند إليه من علاقات اجتماعية تواصلية وتفاعلية.

وتحظى هذه النظرية التي ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بتراكم فكري مكنّها بفضل خاصة أعمال تالكوت بارسونز (Talcott Parsons) وروبرت ميرتون (Robert Merton)(9) من أن تعرف تطورات عدّة وحركة نقديّة داخلية وذاتية تطال أحيانا المسلمات الأساسية، الشيء الذي جعل من باراديغم البنائية الوظيفية جهازا غنيا ومتنوعا، قادرا على الاستمرارية رغم أنه يندرج ضمن النظريات الكلاسيكية والمحافظة والشمولية.
ولعل أول خطوات فهم الإطار الفكري للبنائية الوظيفية، هو التعرف إلى أهم الرّوافد الفكريّة السابقة لظهور البنائية الوظيفية التي نهلت منها ومن ثمة صاغت تصوّرها للمجتمع وللفعل الاجتماعي بصفة عامة، من منطلق أن هذه النظرية هي ثمرة تفاعل آفاق فكرية مختلفة. 

فلقد شكل المذهب الوضعي (Positivisme) الذي وضعه الفرنسي أوقيست كونت (August Conte) أحد الجذور الفكرية للبنائية الوظيفية حيث أخذت عنه معطى التوازن بين مختلف الأجزاء المكونة للاجتماعي.
وإلى جانب الفلسفة الوضعية التي تتعامل مع البنى الاجتماعية بوصفها «أشياء»، نجد رافد الاتجاه العضوي( la perspective organique) المؤسس على أبحاث تشارلز داروين(Charles darwin)(10) وأيضا هربرت سبنسر وغيرهما، الذي يصوّر المجتمع أي - الرافد العضوي- باعتباره « كائنا عضويا حيا، يتكون من مجموعة من الأجزاء التي يؤدي كل منها وظيفة لصالح بقاء الكل واستمراره حيا»(11)، بمعنى أن التفسير البيولوجي مُهيمن على كيفية تصوّر المجتمع والبعد الوظيفي لأعضائه حيث إن هذا التفسير يُشابه بين جسم الحيوان والمجتمع من ناحية العمل وتساند الأعضاء لضمان الحياة والاستمرارية وهو ما نجد له صدى في فكر دوركايم القائل بأن وظيفة العناصر الاجتماعية تتمثل في مساهمتها في الحفاظ على مجرى الحياة في المجتمع وأيضا رادكليف براون الذي يعرف الوظيفة بكونها «المساهمة في استمرارية البناء الاجتماعي وثباته»(12).

ومن علم الإحياء والبيولوجيا إلى علم الإنسان (Anthropologie) إذ استفادت البنائية الوظيفية من أبحاث مالينوفسكي(Malinowski) ورادكليف براون
«Radcliffe-Brown ومارغريت ميد (Margaret Mead) القائمة على أهمية القيم والثقافة والمعايير ودورها في تحقيق الاستقرار والتماسك والانضباط الاجتماعي(13). ويمكن القول إن التطورات التي شهدتها النظرية البنائية الوظيفية ذات صلة بالخصوص بالرافد الأنثربولوجي مهمة ونقطة تحول نوعي في بداية التقليص من هيمنة التمشي الإمبريقي 
(une démarche empirique) رغم نقد روبرت ميرتون لمسلمة الاستقرار والتوازن التي تنطبق على المجتمعات البدائية أكثر من المجتمعات الحديثة والتي من خصائصها الدينامية والتعقيد وما قد ينتج عنهما من حالات عدم الاستقرار. 
وفي ضوء هذه الروافد مجتمعة يمكننا فهم طبيعة الأفق الفكري والمفاهيمي للبنائية الوظيفية وإحالات مسلماتها الأساسية المتمثلة اختصارا في: 
- يحكم الاستقرار والتوازن كافة وحدّات المجتمع التي تشكل مجتمعة كلا عضويا هو البناء الاجتماعي. بمعنى أن « تفسير وجود أي جزء من الأجزاء يتم بالنظر إلى الوظيفة التي يؤديهما في إطار الكل وأن فاعلية الجزء ذات صلة بمتطلبات الكل ومؤثرة فيه»(14).

- تؤدي أجزاء المجتمع وظائف وتخضع إلى مبدأ التساند الوظيفي والاعتماد المتبادل بين البنى والأنساق الفرعية للنسق الكلي. 
استنادا إلى هذه الروافد والمبادئ والمفاهيم الأساسية، فكيف يمكن أن نحدّد تصور البنائية الوظيفية لوسائل الإعلام كنسق فرعي وجزء من كلية النسق؟ 

1-1 وسائل الإعلام أو «الأجهزة الأساسيّة للعلاقات الاجتماعيّة» :

من المهم التذكير بأن الاتصال من العمليات الاجتماعية الأساسية التي تقوم عليها حياة الأفراد والمجتمعات، وهو ما يفسر لنا توظيف علم الاجتماع وعلم النفس لعدد من النظريات أو النماذج الاتصالية على غرار نظرية التعلم مثلا.
فالاجتماعي يتجلى في كل أنماط الاتصال المتمثلة في الاتصال الشخصي والجماعي والجماهيري وغير ذلك، كما أن الفعل الاتصالي ببعديه الإنساني والاجتماعي شرط وجود المجتمع واستمراريته. ومن ثمة فإن أهمية وسائل الإعلام في صلة بالتراث الاتصالي الإنساني ولا تعني حداثتها بالمعنى التقني والتكنولوجي أن جوهر العملية الاتصالية المتكونة من باث ومتقبل ورسالة قد تغيرت. أي أن وسائل الإعلام تنضوي ضمن وسائل الاتصال وما ينطبق على العملية الاتصالية من عناصر وحاجات وتفاعلات مختلفة وكيف أنه - أي الفعل الاتصالي- يرنو إلى إشباع حاجيات الفرد وتوقعاته، ينطبق كذلك على العملية الإعلامية. وما الأهمية المتزايدة التي باتت تعرفها منذ عقود وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية إلا تعبيرا عن تزايد الحاجة إلى الإعلام وإلى تعقد الواقع الاجتماعي وتعمق تبعية الفاعل الاجتماعي اليوم إلى وسائل الإعلام.
واستنادا إلى فكرة كلية النسق واضطلاع الجزء بوظيفة داخل الكل، فإن وسائل الإعلام هي نظم اجتماعية ونسق فرعي يؤدي وظائف اجتماعية تساهم في تحقيق التوازن والاستقرار الاجتماعيين (15)على اعتبار أن المؤسسات الاجتماعية في التحليل الوظيفي تثبت النظام والتوازن داخل المجتمع. بمعنى أن وسائل الإعلام كجزء من البناء الاجتماعي هي متغير مستقل وعضو يساند وظيفيا النظام العضوي للمجتمع وينسحب عليه ما ينسحب على الأعضاء أو الأنساق الفرعية الأخرى. بل إن وسائل الإعلام في ضوء أفكار هربرت سبنسر تغدو مكونا رئيسيا وقاعديا للنظام العضوي الكلي وتحديدا لما يسميه «الجهازين العضويين» وهما الموزع والمنظم(16).

1-2 المعلومات: محرّك الأنشطة الاجتماعية

والحقيقة إن الفكرة المركزية التي أهلّت وسائل الإعلام إلى أن تكون نظما اجتماعية ذات دور مؤثر وقوي في حياة الأفراد والمجتمعات، تتعلق بكون وسائل الإعلام منتجة للرسائل المعلوماتية وإذا ما وضعنا في الحسبان حاجة الفرد الحيوية إلى المعلومات وكيف أن المعلومة أو الخبر «ركيزة كل نشاط اجتماعي»(17)، فإننا سندرك حتما سر العلاقة القوية والإلزامية اليوم بين الأفراد ووسائل الإعلام بحكم اعتماد الفرد عليها في اكتساب المعلومات التي تمكنه بدورها من فهم بيئته والتفاعل معها وفق ما وفرته له وسائل الإعلام من معرفة مؤطرة لسلوكه الاجتماعي ولطبيعة تفاعله.
وفي هذا السياق، يبدو لنا طرح التساؤل البسيط حول أسباب استخدام الناس لوسائل الإعلام من قراءة للصحف واستماع للإذاعات ومشاهدة للقنوات، قد تقودنا ليس فقط إلى تحديد دواعي الاستخدام ومبرراته وإنما أيضا إلى التعرف إلى طبيعة تلك الحاجات وعلى رأسها «الحاجة إلى التكيف مع الأفكار والممارسات والتقنيات الجديدة»(18) التي تقوم بتلبيتها. وتحديدا نشير إلى نظرية الاستخدام والإشباع التي كشفت عن العلاقة بين الاستخدام والإشباع في مجال وسائل الإعلام: إحدى الدّراسات التي قامت عليها هذه النظرية هي الدراسة التي أجراها بيرنارد بيرلسون (B. Berlson) سنة 1949 تتعلق بما مثله حدث توقف ثماني صحف عن الصدور لمدة أسبوعين بالنسبة إلى القراء وذلك بسبب إضراب عمال التوزيع في نيويورك. أظهرت هذه الدراسة التي أجريت قبل قرابة 65 عاما أن الصحف تؤدي عدة أدوار وهي تقديم المعلومات العامة وتفسير الأحداث وتقدم معلومات حول المال والطقس إضافة إلى أنها أداة للهروب من العالم اليومي(19).

والظاهر أن نتائج هذه الدراسة لا تزال ذات مصداقية إن لم تتأكد أكثر فأكثر باعتبار مضاعفة أسباب الاستخدام والحاجات الباحثة عن الإشباع في عصر تُهيمن عليه مشاعر وحالات القلق والخوف والاغتراب. كما يكشف التزايد الهائل التي أصبح يعرفه عدد القنوات الإخبارية، عن تخمة في الأحداث وتشابكها وازدياد الغموض، الذي ولّد بدوره حاجات نفسية وإدراكية متزايدة تبحث عن التفسير والفهم إذ العلاقة بين خفض الغموض وخفض التوتر عضويّة وجدليّة. ولعله من المهم ملاحظة أن الجمهور حسب الإطار الفكري لنظرية الاستخدام والإشباع ليس سلبيا . بل إن العلاقة مع وسائل الإعلام تحتكم إلى التفاعلية بين أهداف الجمهور ودور المتغيرات الوسيطة في تحديد هذه الأهداف وسعي وسائل الإعلام الجماهيرية التقليدية إلى إشباع مقاصد الجمهور وحاجياته. 
توصل دينيس ماكويل (Denis McQuail) - الذي يعتبر وسائل الإعلام الجماهيرية في قمة الهرم الذي اقترحه للمستويات المؤلفة للحقل الاتصالي - إلى ضبط الحاجيات التي تلبيها وسائل الإعلام وهي تتوزع ما بين اكتساب الأخبار والمعلومات عن البيئة المحيطة وتحقيق الاندماج ودعم السلوك والاتجاهات، محدّدا في مقابل ذلك ومن صلب الحاجيات المعلنة وظائف الإعلام المتمثلة في تحقيق الفهم والمراقبة ودعم العلاقات الاجتماعية والتركيب الهوياتي الشخصي والاجتماعي للفرد ووظيفة الالتحام الاجتماعي والتفاعل الاجتماعي وأيضا وظيفة الترفيه(20). 

وباعتبار أن إفراد «مساحة للترفيه هي من خصائص الحضارة الصناعية والتقنية»(21)، فإن التسلية تعد وظيفة أساسية من وظائف وسائل الإعلام وهي تلبي حاجة نفسية اجتماعية حيث تساعد التسلية الأفراد على مقاومة ما يتصف به اليومي من «ظلمة قاتمة»(22) حسب وصف ميشال مافيزولي (Michel Maffesolli) إذ يحدّد خصائص الحياة اليومية في «التناقض الوجداني وتعدد الدلالات والتبدلية وانعدام الأهمية والتكرار»(23)

فالترفيه أو ما يعبر عنه في نظرية اللعب في الاتصال الجماهيري باتصال المتعة يمثل أحد أهم أسباب « تعرض الأفراد إلى وسائل الإعلام للتحرر من ضغوط الضبط الاجتماعي»(24)

أما كاتز(E. Katz) ، فقط ضبط حاجيات الأفراد في خمس حاجيات كبرى هي الحاجيات المعرفية المتمثلة في اكتساب المعرفة والفهم والأخبار والوجدانية النفسية والشخصية والاجتماعية ومعالجة التوتر(25) وهو تلخيص بليغ يكشف إحاطة وسائل الإعلام بعدة وظائف تعالج مختلف أبعاد الفعل الاجتماعي.
ولمزيد تأكيد مركزية وظيفة تقديم المعلومات للأفراد وللجمهور في منظومة الوظائف الاجتماعية التي تؤديها وسائل الإعلام ، نذكر نظرية ترتيب الأولويات (26) التي ظهرت 1958 بانتباه من الباحث برنارد كوهين (Bernard Cohen) وهو ما يعني أن علاقة الفاعلين الاجتماعيين بـ«المعيش اليومي»(27) تُشكلها الرسائل المعلوماتية والثقافية التي تبثها وسائل الإعلام ممّا يكشف عن قوة تأثير وسائل الإعلام صحفا وإذاعات مسموعة ومرئية في حياة الناس اليومية وتغلغلها إلى درجة لعب دور تأطيري لأنماط السلوك الاجتماعي وذلك من خلال تركيز وسائل الإعلام على قضايا وأحداث بعينها وإهمال قضايا أخرى بمعنى أن وسائل الإعلام هي من يرتب انتقائيا مراكز اهتمام الرأي العام وتوجهه. 

وفي هذا الصدد من غير الممكن القفز على دراسة هارولد لازوال (Harold Lasswell) ذات الجذور الوظيفية في مقاربتها لتأثير وسائل الإعلام الجماهيرية ذلك أن نظريته المسماة «إطلاق الرصاصة» أو «الحقنة المخدرة»، إنما تقوم على تأكيد قوة تأثير وسائل الإعلام على الجمهور وهي قوة شبهها بالرصاصة وتأثيرها - أي وسائل الإعلام- اعتبره مطابقا لتأثير الحقنة المخدرة. فأنموذج لاسوال للاتصال تكمن أهميته في إضافة عنصر التأثير (من؟ يقول ماذا؟ وبأي وسيلة؟ ولمن؟ وبأي تأثير؟) وهي الإضافة المدخل التي قدم في إطارها قراءة في تأثير الدعاية خلال الحرب العالمية الأولى منتهيا إلى مجموعة من الاستنتاجات وهي القوة الكبيرة لوسائل الإعلام في التأثير على سلوك الجمهور وكيف أن وسائل الإعلام هذه، هي أدوات لإدارة الرموز المؤثرة وتوزيعها على الرأي العام(28) 
.
إلى جانب قوة وسائل الإعلام من ناحية كونها مصدرا للمعلومات وموزعة لها وتطور أدواتها في الإحاطة السريعة وأحيانا الفورية لما هو حدث آني، فإنها تمثل مصدرا أساسيا اليوم في تشكيل رأس المال الرمزي للأفراد والجماهير وذلك من خلال أداء وظيفة نقل التراث الاجتماعي والتدخل في تشكيل المخيال والتمثلات الاجتماعية الشيء الذي يفيد أن التحليل البنائي الوظيفي لوسائل الإعلام قد استفاد وأصبح أكثر مصداقية مع الأعمال الوظيفية النقدية التي قدمها الوظيفيون الجدد تالكوت بارسونز وروبرت ميرتون. ونقصد بذلك أن نظرية تالكوت وكيفية فهمه لبنية الفعل الاجتماعي تنطبق كذلك على وسائل الإعلام التي تمثل نسقا فرعيا داخل النسق الكلي. من هذا المنطلق الذي يقارب فيه بارسونز الفعل الاجتماعي مقاربة لا فقط وظيفية وإنما خصوصا منظومية(29) أي أنه يفهم الفعل الاجتماعي كمنظومة اجتماعية كاملة أضاف إليها إلى جانب الوظائف السابقة الذكر وظيفة المحافظة على الأنماط والمعايير.

ربما ا الاستنتاج أن وسائل الإعلام تقوم بوظيفة ثقافية تربوية أحيانا معلنة وأحيانا غير ذلك وهي وظيفة استدعاء الثقافي للضبط الاجتماعي ممّا يعزز التحليل الوظيفي لوسائل الإعلام بحكم جوهرية المسألة الثقافية وتموقعها في جوهر ما هو اجتماعي سواء في أنماط سلوك الفرد أو الجماعات أو المجتمع . فالحياة الاجتماعية الإنسانية تتميز بوجود الثقافة والتقاليد الثقافية والواقعة الاجتماعية تنقل طرائق التفكير والشعور والتفاعل(30).
من جهة ثانية نعتقد أن وجاهة نقد روبيرت ميرتون لمبدأ التكامل والانسجام لم يُضعف المنظور البنائي الوظيفي لوسائل الإعلام، بقدر ما دعمه وجعله أكثر موضوعية وذلك لأن تنسيب مبدأ التكامل والتماسك الاجتماعيين أكثر تلاؤما مع طبيعة المجتمعات الحديثة التي تعاني أحيانا من عدم التكامل والتفكك والانحراف. لذلك، فإن تنبيه ميرتون في كتابه «عناصر النظرية والمنهج السوسيولوجي» إلى ضرورة الحذر من فكرة التكامل والانسجام للنسق الكلي والتشكيك فيها(31)، تدافع عنه ظروف نشأة السوسيولوجيا نفسها ، فلا يجب أن ننسى كون السوسيولوجيا هي إرثا للحداثة مع ما يعنيه ذلك من ظهور مشكلات اجتماعية جديدة تنتج بدورها حالات عدم الاستقرار أكثر من أوضاع متماسكة. 

كما أن الحاجة إلى المعلومات والتفسير وخفض التوتر والغموض تعرف تصاعدا نوعيا في أوقات عدم الاستقرار والأزمات والأحداث الساخنة والحروب والنزاعات أكثر منه في حالات الاستقرار والتوازن الاجتماعيين حيث إن متابعة أخبار الصحف والإذاعات والقنوات التلفزية تصبح ممارسة ثقافية أساسيّة وتتضاعف كثافة التعرض إلى وسائل الإعلام السمعية البصرية الجماهيرية وذلك بحثا عن إشباع معرفي ونفسي واجتماعي(32).

إذن يمكن القول إن وسائل الإعلام وتحديدا الجماهيرية منها نظم اجتماعية مؤثرة إلى حد كبير في المعيش الاجتماعي اليومي للفاعلين الاجتماعيين الذين تربطهم بها علاقة اعتماد متقدمة حتى أن بعض الخبراء يرون في وصف «التبعية» أكثر دقة وتعبيرا عن طبيعة العلاقة التي باتت تحكم علاقة الأفراد والمجتمعات بالصحف والإذاعات والتلفزيونات وغيرها من وسائل الإعلام الجماهيرية ذات التأثير الجماهيري القوي.

1-3 لزوم الاعتماد المتبادل على وسائل الإعلام في المجتمعات الرّاهنة

إن فكرتي الاعتماد والاعتماد المتبادل هما أهم إضافات النظريات الشهيرة التي تحمل اسم «نظرية الاعتماد على وسائل الإعلام». فقد كشفت هذه النظرية التي مرت بعدة أطوار، العلاقة الدائرية بين الجمهور ووسائل الإعلام والمجتمع وأن ظاهرة الاعتماد على وسائل الإعلام إنما هي تعود إلى الوظائف التي تؤديها والمتمثلة حسب أصحاب هذه النظرية التي توصف بأنها نظرية «بيئية» ، في الإعلام والتعلم والإقناع والعلاقات العامة والتغيير الاجتماعي(33). ومن ثمة، فإن الفكرة الجوهرية في نظرية الاعتماد على وسائل الإعلام ذات الجذور البنائية الوظيفية تكمن في تأكيد قدرة وسائل الإعلام والاتصال على التأثير المعرفي والنفسي العاطفي وأيضا في طبيعة الممارسات بحكم امتلاك وسائل الإعلام للمعلومات وقيامها بالتوزيع والنشر. وإذا كانت هذه النظرية التي ظهرت في أنموذجها الأول سنة 1976، قد ركزت على مسألة المعلومات ومركزيتها في ظاهرة اعتماد الأفراد والمجتمعات على وسائل الإعلام ، فإن التطورات التي قدمتها عام 1994 (34) ، أشارت إلى فكرة أخرى أساسية هي مسألة الاعتماد المتبادل التي تتصل بدورها بمبدأ التساند الوظيفي لدوركايم بمعنى أن الروابط بين وسائل الإعلام كنسق فرعي ومستقبلي الرسائل المعلوماتية الإعلامية والنسق الاجتماعي الكلي، تستند إلى الاعتماد المتبادل الذي يساعد الفاعلين الاجتماعيين على فهم الأنساق الفرعية الأخرى كنظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية المكونة للمنظومة الاجتماعية العامة. بل إن هذا الاعتماد المتبادل بين وسائل الإعلام والنظم الاجتماعية الأخرى يكتسي طابعا إلزاميا(35) في المجتمعات الرّاهنة ذات الخاصية المرّكبة.

كما أن اعتماد الأنساق الفرعية الأخرى على وسائل الإعلام لا يمكن التغاضي عنه بدليل تواتر الربط بين دور وسائل الإعلام في التغيير الاجتماعي ومسائل التنمية والتقدم. بل إن وسائل الإعلام مثلت في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي خصوصا في دول العالم العربي المستقلة حديثا آنذاك أداة مهمة وأساسية للتحديث(36) ، ممّا يُعيدنا إلى المقاربة المنظومية التي وضعها تالكوت بارسونز لبنية الفعل الاجتماعي وتركيزه على البعد الثقافي. لذلك فإن انخراط وسائل الإعلام في المشروع التحديثي والعمل على نقل قيمه وأفكاره، إنما هو مسوغ إضافي لمكانة وسائل الإعلام الجماهيرية وقوتها لا فقط كمصدر للمعلومات بل أيضا كفاعل مؤثر في تشكيل منظومة قيمية ورمزية جديدة للأفراد والمجتمعات. 

إذا كانت وسائل الإعلام من منظور البنائية الوظيفية، هي نسق فرعي يسهم في تحقيق التوازن والتماسك ويشبع حاجات الأفراد المختلفة إلى درجة حصول نوع من التبعية إلى وسائل الإعلام، فكيف تصوّر لنا المدرسة النقدية وسائل الإعلام وتأثيراتها؟

2- النظريّات النقديّة ونقد محتوى 

وسائل الإعلام:

يعود تاريخ ظهور الأفكار الأولى التي قامت عليها النظريات النقدية إلى العشرينات من القرن الماضي وتحديدا عند تأسيس معهد البحث الاجتماعي في فرانكفورت سنة 1923. ومن ثمة فإنه بلغة السنوات تكون أطروحات النظريات النقدية المدافعة عن العقل وقيم العقلانية قد بلغت تسعة عقود عرفت فيها مراحل من الخفوت والنجاح.
ويُحسب للنظريّات النقدية ذات الجذور الهيجلية في خصوص النظرة إلى العقل ومفهوم الجدلية وأيضا الماركسية المؤسسة لمفهوم الهيمنة في علاقته بالثروة، ربط الصلة بين العلوم الاجتماعية والفلسفة .

وتشمل النظريات النقديّة اتجاهين تقريبا هما اتجاه مدرسة فرانكفورت
(L?547;Ecole de Francfort) والنظرية الثقافية النقدية وأيضا اتجاه نظرية الاقتصاد السياسي، مع العلم أن الخيط المنظم لهذين الاتجاهين، ينهل من المنطلقات الاجتماعية والفلسفة نفسها ويستند إلى المسوغات الأساسية للنظريات النقدية. 

من جهة أخرى، لعله من المهم التذكير باهتمام مفكري النظريات النقدية بالتأثيرات السلبية لوسائل الإعلام ناهيك عن الصلة القوية التي ربما تربط بين ما يسميه روبرت ميرتون الوظائف الخفية والمعجم الأساسي للنظريات النقدية وخصوصا مفاهيم الثقافة الجماهيرية وتسليع الثقافة وخداع الجماهير وغير ذلك مع المفاهيم والمقولات الأساسية في الخطاب الفكري العام لمؤلفات ودراسات أصحاب الاتجاهات المنضوية تحت مشروع النظريات النقدية. وهي صلات وروابط سمحت لنا بافتراض تبني مدرسة فرانكفورت لموقف نقدي إزاء وسائل الإعلام الجماهيرية باعتبار الوظائف التي تؤديها في المجتمع الحديث الجامع بين التصنيع والاستهلاك، دون أن يفوتنا في هذا السياق تلك التقاطعات الموقفية بين هذا الموقف النقدي وما تستبطنه بعض نقاط النظريات الاتصالية والإعلامية المتعلقة بدور حارس البوابة أو القائم بالاتصال. 
وفي الحقيقة، يبدو لنا أن فهم الإطار الباراديغمي للنظريات النقدية يتحقق بتحديد أهم المفاهيم ذات المركزية الفكريّة في مشروعها الحامل للصفة «النقدية» ذلك أن منطلقات النظريات النقدية، تُيسر للباحث التأصيل الفكري الاجتماعي والفلسفي لمواقف أصحاب مدرسة فرانكفورت من الثقافة السائدة عموما ومن وسائل الإعلام محتوى وتأثيرات.

2-1- ضد الوضعيّة والإنسان ذي البعد الواحد:

يمثل نقد الفكر الوضعي والتجريبي مرتكزا أساسيا من مرتكزات النظريات النقدية التي ترفض تأليه الواقع وحتمية « الكليات» وطمسها للفرد ولما هو فردي. وهي النقطة الأولى المؤسسة لتعارضها مع أهم مسلمات الاتجاه الوضعي الذي يشكل بدوره أحد الروافد الرئيسية للمنظور الوظيفي لوسائل الإعلام. 

ولكن كيف تفهم «النظريات النقدية» النقد وماهي المبادئ المؤطرة لمواقفها والمعجم الثري بالمفاهيم والمقولات النقدية؟

يعد ماكس هوركايمر (Max Horkheimer) (1973-1895) أحد مؤسسي مدرسة فرانكفورت إلى جانب تيودور أدورنو(Théodore Adorno) (1969-1903)، وهو من صاغ اسم النظرية النقدية وذلك في كتابه « النظرية التقليدية والنظرية النقدية». 

آلان هاو (Alan Haw) في كتاب له عنوانه «النظرية النقدية» يشرح مبررات إطلاق صفة «النقدية» على نظريات مدرسة فرانكفورت والنظرية الثقافية ونظرية الاقتصاد السياسي، ويقول إن هذا التوصيف مرّده «الربط بين بعض أفكار هيجل وتشديد كارل ماركس على طبيعة الوجود المادية»(37). 
وعلاوة على أن النقد كما تمارسه اتجاهات النظريات النقدية هو ذلك النقد الذي يدافع على العقلانية ومكانة العقل وحرية الفرد أي النقد الذي يعكس تجسيدا للمبادئ الإنسانية الكونية التي نادى بها التنوير لذلك فإن هربرت ماركيوز (Herbert Marcuse) (1979 - 1898) يشدد على فكرة أن «التقويم النقدي... هو الحقل الفعلي للمعرفة»(38).

ففي ظل فهم مستندات الموقف الناقد للوضعية والمرتكزات الفكرية لفكرة النقد، نفهم الأسس الأخرى للنظريات النقدية والمتمثلة في إحياء دور التأمل وأهميته وذلك بوصفه عنصرا حيويا من عناصر العقل إضافة إلى مبدأ جدلية العقل والواقع وكلّها تفرعات لفكرة أساسية تتمثل في مركزية مفهوم العقل ومحاولات مدرسة فرانكفورت توسيعه وربطه بمفهوم الحرية، حيث تؤمن النظريات النقدية بقدرة العقل الإنساني ودوره في التحقيق الذاتي من خلال» الوعي الحر للذات بذاتها: وحدّه الإنسان يتمتع بالقدرة على الفهم ... إن وجود الإنسان في حد ذاته يشكل سيرورة من التحقق الذاتي ومن نحت حياته وتصورها بناء على أفكار العقل»(39).

وبالنظر في هذه المرتكزات الفكرية للنظريات النقدية، يبدو واضحا دفاعها عن الفرد وعقله ووعيه الحر وحقه في التحقق الذاتي وهو ما نستنتج منه النقد الصريح للفكر الوضعي الذي حسب أعلام المدرسة النقدية ينتج أفرادا من بعد واحد، مع ما يعنيه ذلك من تعطيل للعقل وسلب للحرية حيث حتمية «الكلي» وضغط المؤسسات، وهو ما يفرز بدوره ظواهر عبر عنها مفكرو مدرسة فرانكفورت بـ»العقل الأداتي» و»التشيؤ» و»البعد الآحادي» وغيرها من الأفكار والأوصاف الحاملة لمضمون نقدي يدافع بالخصوص عن المنظومة القيمية للعقلانية وللحداثة كما بشر بها فلاسفة التنوير. 

2-2- نقد الثقافة الجماهيريّة وتسليع الثقافة والهيمنة:

إن نقد النظرية النقدية للمجتمع الصناعي الحديث الاستهلاكي، حتم آليا نقد وسائل الاتصال باعتبارها نظم اجتماعية تساند وظيفيا أهداف ومصالح النظم الماسكة بالسلطة والثروة. ومن ثمة، فهي وسائل في خدمة الأطراف المهيمنة على مجالي السياسة والاقتصاد وناقلة لرموز ومعاني القوى المُهيمنة ممّا يدعم انتساب النظريات النقدية في جزء من أطروحاتها إلى المقاربة الماركسية وجدلية السيطرة على الثروة والسيطرة على المعنى أي جدلية البنى الفوقية والتحتية.

ومن الظواهر التي نقدتها اتجاهات النظريات النقدية، ما يتوافق إلى حد كبير مع مجال وسائل الاتصال وتحديدا وسائل الإعلام الجماهيرية ونعني بذلك مسائل الثقافة الجماهيرية المعبر عنها أيضا بالصناعة الثقافية وأيضا ظاهرة الهيمنة وما ينتج عنها من تأثيرات سلبية تساهم في تشييئ الجمهور وجعله متلقيا سلبيا يفتقد إلى التفاعل النقدي.

أ- ثقافة جماهيرية أم ثقافة أرباب السوق؟:

يقول فرانسيس بال(Francis Balle) إن « وسائل الاتصال هي تقنيات فقط وإن كيفية استخدام هذه التقنيات تحدّدها السوق»(40). ففي هذا السياق يمكن تنزيل موقف النظريّات النقديّة القائل بأن مفهوم الثقافة الجماهيرية أو الشعبية، ينطوي على مخادعة وأن هذه الثقافة الموصوفة بالجماهيرية لا علاقة لها بحاجيات الجماهير وبمشاغلهم فهي ثقافة لا تعبر عنهم ولا تمثلهم وإنما هي ثقافة تلبي حاجة المنتجين وأصحاب المصانع إلى الاستهلاك الوافر والربح السريع أي أنها الثقافة المواتية لثقافة السوق. فالثقافة الجماهيرية من المنظور النقدي هي ثمرة طبيعية لتعطيل العقل باعتباره مدخلا سمح بنشر الثقافة الجماهيرية التي من خصائصها «التنميط والابتذال وتغليب التسلية والدعاية وقهر العناصر الايجابية في الثقافة الشعبية كي تساير المطلوب والشائع»(41). كما تعتبر مدرسة فرانكفورت أن فكرة صناعة الثقافة التي قدمها لأول مرة ماركس هوركايم وأدونو في مقالهما المشترك «صناعة الثقافة: التنوير كخداع جماهيري»، هي انعكاس للواقع الاحتكاري الذي يركز على برامج التسلية والإعلانات مما يؤدي إلى نوع من الثقافة يعرف تداخلا وتشابكا بين الثقافة والتسلية والدعاية يطلق عليه تمويها الثقافة الجماهيرية وذلك بسبب «ظاهرة التطابق»(42) التي تصيب معظم أفراد الجمهور. 
وإذا ما تعمقنا قليلا في صورة الجماهير وملامحها حسب مدلولات مفهوم الثقافة الجماهيرية، فإننا نعثر على خيط رفيع يذكرنا بتلك الصورة السلبية التي رسمها غوستاف لوبون (Gustave leBon) عن الجماهير:» إن عجز الجماهير عن التفكير المتعقل يحرمها من كل روح نقدية أي من كل قدرة على التمييز بين الحقيقة والخطأ وبالتالي من تشكيل حكم دقيق على الأمور... ومن وجهة النظر هذه نلاحظ أن الأفراد الذين لا يرتفعون فوق مستوى الجماهير هم عديدون»(43).

في حين أن أعلام النظريات النقدية يرون أن قدرة العقل هي الأصل في الأشياء وعكس ذلك ينضوي ضمن ثقافة الهيمنة وتأثيراتها السلبية. وفي هذه النقطة تكشف مدرسة فرانكفورت عن جزئية مهمة في مقاربة مفهوم صناعة الثقافة وهي أن هذه الثقافة « تقوم على إيديولوجيا أكثر من الثقافات السابقة» (44). 
إن تطبيق أبعاد مفهوم صناعة الثقافة على المحتوى التي تقدمه وسائل الإعلام الجماهيرية، يجد صدى لا بأس به حيث من الصعب التقليل من ظاهرة حمى التسابق بين القنوات والإذاعات على تقديم برامج التسلية والترفيه وإقحام آلية الجوائز لاستقطاب أكثر ما يكمن من الجماهير وهي برامج وإن من المنظور الوظيفي تخفف من رتابة الحياة اليومية، فإن التركيز المفرط عليها وجعلها في صدارة محتوى الفضائيات والإذاعات قد كرس قيم الربح السريع وثقافة الاعتماد على الحظ إضافة إلى هيمنة المادة الإعلانية وتأثيرها بسبب تكرار بثها وتلاعبها بالعقول حسب تعبير بيار بورديو(Pierre Bourdieu)(45) على توجيه السلوك الاقتصادي للأفراد ففي هذا المعنى يتنزل مفهوم تسليع الثقافة لتيودور أدورنو الذي يرى أنه مع ظهور الرأسمالية أصبحت منتجات الصناعة الثقافية «كلها سلعة والربح هو كل شيء»(46)، وهكذا نفهم الترابط بين الثقافة الجماهيرية وصناعة الثقافة وما يعبران عنه من فرض لمفهوم التشيؤ الذي صاغه جورج لوكاش (G. Lukas) مع ما يفيده من ضرب لقيمة العقل التي يقوم عليها نقد النظريات النقدية.

ذلك أنه وفق هذه المنطلقات، تتمظهر صناعة الثقافة في إنعاش وسائل الإعلام الجماهيرية للجوانب الغرائزية في الإنسان أكثر من الجانب العقلي والعقلاني والنقدي فيه.

ومن اليسير ملاحظة انحياز وسائل الإعلام الجماهيرية إلى مفهوم الثقافة الجماهيرية وانخراطها في أكذوبة «الجمهور عايز كده» التي هي في الأصل انعكاس لثقافة نمط الصناعة السائد والمهيمن في المجتمعات الصناعية الاستهلاكية ونسبت خطأ للجماهير. من اليسر ملاحظة الانحياز والانخراط، عندما نقيس المساحة المخصصة لما يسمى في النظريات النقدية» الثقافة المضادة» التي تعبر عنها حسب تقديرنا البرامج التي تخاطب الفكر والتي تعتمد ما يعبر عنه أدونور «صدق المحتوى». بل إنه اليوم وبعد سنوات من انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية مرحلة التجاذب الايديولوجي وسيطرة القوة الرأسمالية على العالم من خلال العولمة، فإن بديل « الثقافة المضادة» الذي دافعت عنه مدرسة فرانكفورت بات يشهد تضييقات متزايدة على المضامين الدلالية والرمزية لمفاهيم « الخصوصية الثقافية» و»الاستثناء الثقافي»، وهو ما يعني أن وسائل الإعلام الجماهيرية اليوم أصبحت أكثر توظيفا من ذي قبل لفرض التنميط والتطابق الجماهيري والتشيؤ الذي ينتج عقلا أداتيا لا عقلا حرا وناقدا. 

ب- الرموز المُهيمنة و» التلاعب بالعقول»:

حظيت مسألة الهيمنة في دراسات النظرية النقدية بمساحة مهمة من النقد. ولعل ستيوارت هول (Stuart Hall) من الوجوه البارزة التي قاربت وسائل الاتصال والإعلام مقاربة تقوم على نقد ظاهرة الهيمنة. وتتلخص مقاربة هول النقاط التالية:- محتوى وسائل الإعلام يروج لمصالح الطبقة المسيطرة على المجتمع.

- بحكم انحياز وسائل الإعلام إلى الجماعات المهيمنة، فهي تنتج رسائل إعلامية غير متوازنة وضعيفة المصداقية.
- يوظف محتوى وسائل الاتصال والإعلام الرموز والمعاني التي تخدم أفكار ومصالح الفئات المهيمنة ويتم إنتاجها بطريقة تضمن التأثير على الجمهور (47).

واستنادا إلى هذه التقويمات التي أشار إليها ستيوارت هول، فإن وسائل الإعلام تعمل من خلال المحتوى الذي تقدمه إلى دعم مراكز القوى سواء في السياسة أو في الاقتصاد، وخطورة الهيمنة في هذا السياق تكمن في مجموعة التأثيرات السلبية على الرأي العام وخصوصا على تشكيل الأفكار والمشاعر والمواقف والسلوك، باعتبار الدور الترميزي لوسائل الإعلام التي هي في إحدى وجوهها نصوص حاملة للأفكار المهيمنة وداعمة لها وفق آليات لغوية ومشهدية وتركيبة موغلة في التأثير. ولقد عبّر فرنسيس بال عن ظاهرة الاتصال والتأثير بوضوح عندما بيّن أن وسائل الاتصال وتحديدا وسائل الإعلام « لم تعد فقط تبادلا للحوار أو إقامة له بل التأثير على الغير بالتحديد ليبيعه شيئا ما ،لطبع فكرة معينة في ذهنه أو لإعطاء صورة تدفع إلى التعاطف مع رجل سياسي أو مؤسسة معينة»(48)

ولعل الدعاية من الأمثلة القوية التي شكلّت محور دراسات عديدة منذ الحرب العالمية الأولى، والتي تؤكد ظاهرة هيمنة السلطة السياسية على وسائل الإعلام. بل إن سارج تشاخوتين (Serge Thakhotine) يذهب إلى ما هو أقوى من الهيمنة عندما يعتبر أن الدعاية السياسية تقوم باغتصاب الجماهير!(49) حيث يستند الروسي تشاخوتين إلى تجربة بافلوف ( le schéma de Pavlov) جاعلا الدعاية) تقوم الدعاية هنا بدور الجرس في تجربة بافلوف في ارتباط شرطي بعملية التفكير وتحديد الاستجابة عند الإنسان. كما أن نعوم تشومسكي في تناوله للإنجازات المذهلة للدعاية أو في وصفه « الدعاية الديمقراطية المرعبة»(50)، إنما يكشف التأثير الايديولوجي للبرامج الدعائية ودورها الفعال في تغيير الرأي وفيما سماه هندسة العقل وفرض القبول فاضحا تبعية النظم الإعلامية للسلطة السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية في عملية ترويض الأغلبية(51) 

( في حرب الخليج ثم في الحرب على الإرهاب..) رغم فك الارتباط ظاهريا بين وسائل الإعلام والدولة. وتبقى الدعاية السياسية، كأخطر آليات الهيمنة فاعلة خصوصا في المشاهد الاتصالية التي تكون فيها التعددية والديمقراطية السياسية ضعيفة ، فالغالب على وسائل الإعلام الجماهيرية للبلدان العربية، التركيز على وجهة النظر الرسمية للنخبة السياسية الحاكمة. وليس عفويا أن يكون الموقف الرسمي كلمة الختام في البرامج السياسية.
وإذا كانت الدعاية مثالا على هيمنة السلطة السياسية على وسائل الإعلام، فإن الاتجاه الثاني في النظريات النقدية يلح على أن المؤسسات الإعلامية هي في المقام الأول مؤسسات اقتصادية والمهيمنون على اقتصاد وسائل الإعلام هم ميكانيكيا المهيمنون ثقافيا والمتحكمون في محتوى وسائل الإعلام. 

ولقد بينت عديد الدراسات التي اعتمدت منهجية تحليل مضمون وسائل الإعلام العلاقة بين المحتوى ورأس المال والتأثير الجماهيري. لذلك فإن كلتا الهيمنتين ينتج عنهما هيمنة رمزية وثقافية. فوسائل الإعلام الجماهيري، نظم تتميز بقوة التأثير وسرعته بشكل يجعل عملية بناء للمعنى لدى الجمهور تمر وجوبا من خلال وسائل الإعلام(52) وهو ما أثبته نظرية الغرس الثقافي والدّراسات الميدانية الكثيرة التي قام بها جورج جربنر(G.Gerbner) وزملاؤه حيث خلصت أبحاثهم إلى قوة التلفزيون وتأثيره في السلوك الاجتماعي وأيضا ربطت - هذه الأبحاث- بين كثافة التعرض لوسائل الإعلام والتلفزيون بصفة خاصة واكتساب المعاني والمعتقدات والأفكار والصور الرمزية حول الواقع ...وهيمنة الصور التلفزيونية على سلوك الأفراد(53). ولا تفوتنا في سياق تناول الهيمنة الرمزية للتلفزيون وتأثيراتها الاجتماعية على السلوك التذكير بالكم الهائل من الدراسات الميدانية التي أجريت حول العلاقة السببية القائمة الذات بين مشاهدة لقطات العنف واكتساب سلوك العنف لدى الأطفال والشباب(54).

كما أن تأثير القنوات الدينية على السلوك الديني للشباب اليوم في المجتمعات العربية من الفرضيات القوية التي تدعم مشروعية تبنيها،التزايد السريع الوتيرة لعدد القنوات الدينية من جهة وأيضا تحول مشاهدة هذه القنوات إلى ممارسة ثقافية أساسية لدى فئة الشباب بشكل خاص، وتجمع كل هذه الأمثلة على تأكيد تأثير وسائل الاتصال الجماهيرية. 

إن نظريات التأثير الايديولوجي والثقافي الرمزي التي مهدّت لها ظاهرة صناعة الثقافة المنتجة للجمهور السلبي هي ذات جذور سوسيولوجية نقديّة، وربما يساعد متغير تراجع نسب الأمية اليوم في إعادة في تنسيب ظاهرة التأثير وتنسيب النقد داخل مدرسة فرانكفورت.

ذلك أن ارتفاع معدل التمدّرس وما رافقه ولو بشكل متفاوت من تنام للتفكير النقدي ، يفترضان مراجعة التأثير وتدقيقها من خلال ربطها موضوعيا بالمتغيرات وذلك لأهمية دور المتغيرات الاجتماعية في تحديد السلوك والمواقف. ولتدعيم فكرة ضرورة الربط بين تأثير محتوى وسائل الإعلام والمتغيرات الاجتماعية، نشير إلى بعض نتائج الدّراسات الميدانيّة لنظريّة الاعتماد على وسائل الإعلام ومنها أن غير المتعلمين يقضون وقتا أطول في تعرضهم لوسائل الإعلام وأيضا تعرض أصحاب الدخل المنخفض أكثر من المستويات الاقتصادية الأخرى لوسائل الأعلام.

كما أن تنزيل توصيف مدرسة فرانكفورت الجمهور بالسلبية في ضوء الفردانيّة المنهجية (Lindividualisme méthodologique ) ، سيقودنا إلى نقد فكرة الجمهور والمشيّأ والسلبي التي تتقاطع مع المبادئ العامة للسوسيولوجيا الكليانية التي ترى سلوك الفرد نتاجا « لضغوطات البنى الاجتماعية»(55). فالفرد بالنسبة إلى رايمون بودون(Raymond Boudon) يتمتع بالاستقلالية وليس صحيحا كونه رهين حتمية المؤسسات الاجتماعية :» إذا نظرت إلى الواقع البشري يكون من السهل أن ترى وجود العديد من الحالات غير المحتومة»(56). 

إن الجمهور كوحدة رئيسة في النسق الفرعي لوسائل الإعلام ،تتميز بالتركيب والتعقيد من الصعب التعامل معه أي الجمهور- وكأنه عنصر صلب ومغلق ومتجانس .لذلك فإن إطلاق صفة السلبية على الجمهور يعد توصيفا يفتقد إلى الدقة والعقلانية والنسبية ويتجاهل البناء الرمزي للفرد . فالجمهور يتفاعل مع محتوى وسائل الإعلام سلبا أو إيجابا أكثر مما يتأثر بها. ونعتقد أن مقاربة علاقة الأفراد بوسائل الإعلام من منظور التفاعلية الرمزية(Linteraction Symbolique) قد يكون أكثر مواكبة للتغيرات التي عرفتها هذه العلاقة. كما يعني إيثار مفهوم التبادل (Léchange) النظر إلى التفاعلات الاجتماعية بوصفها صيرورة وليست معطى جاهزا(57). بل إن مفهوم «التواصل» مع الآخرين والمؤسسات الاجتماعية ، تُحدّد طبيعته ثقافة البيئة الاجتماعية المحدّدة بدورها للأدوار 58 من جهة وأيضا عملية الفردنة ذاتها التي تؤثر في وظائف المؤسسات الاجتماعية وتقلص من طابعها الكلياني وتظهر الفاعل الاجتماعي ذو الخبرة أكثر فعلانية من جهة أخرى.

ولقد أظهرت نتائج نظرية التأثير المحدود أن «جمهور وسائل الإعلام لم يعد سلبيا في علاقته بوسائل الإعلام ، يقبل ما تعرضه له ويتأثر به في إطار مفهوم العزلة . بل أصبح الآن يتصف بأنه ايجابي ونشط»(59). ونستنتج ممّا سبق أن تأثير وسائل الإعلام ليس معطى حتميا يتحقق دون ايلاء أي اعتبار للخصائص الثقافية للجمهور دون أن ننسى أن رصيد وسائل الإعلام في خصوص كيفية تغطية الحروب مثلا أو تسويق المنتجات وغير ذلك ، قد أصبح يشكل خبرة متميزة من أهم فوائدها التعاطي بحذر مع محتوى وسائل الإعلام السياسي منه تحديدا وهو ما أشار إليه فرانسيس بال بقوله إن الإعلام بعد ووترغيت وإيران غيت قد دخل عصر الشك وظهرت كلمة «التضليل الإعلامي» من جديد(60). 

3- وسائل الإعلام اليوم: مؤسسة من مؤسسات التنشئة الأوليّة؟

بعد محاولة أولى في تحديد علاقة وسائل الإعلام بالأفراد والمجتمع من منظوري البنائية الوظيفيّة ومدرسة فرانكفورت، قد يكون من الممكن إعادة التفكير في وسائل الإعلام بوصفها إطارا أوليا من أطر التنشئة الاجتماعية. ذلك أن حجم اعتماد الأفراد على وسائل الإعلام ومزاحمة وسائل الإعلام لمؤسستي الأسرة والمدرسة، يُحتمان إعادة تقويم نظم وسائل الإعلام داخل البناء الاجتماعي. فليس خافيا، ما باتت تعرفه مؤسسة الأسرة اليوم من تغييرات في شكلها ووظائفها وأيضا أزمة مؤسسة المدرسة بالمعنى السوسيولوجي. وفي المقابل تفاقم مظاهر العزلة الاجتماعية وتراجع الروابط الاجتماعية التقليدية، فإن وسائل الإعلام الجماهيرية قد غنمت من هذا التراجع وعرفت تصاعدا مذهلا إلى درجة أصبحنا نتحدث معها عن الانفجار الفضائي والإنسان الجماهيري والمجتمع الجماهيري والمخيال الجماهيري .
لقد أصبحت الحاجة إلى المعلومات والفهم مضاعفة ومصيرية وحيوية في عالم
تغلب عليه العلاقات الإقليمية والدولية المتوترة المعقدة. 

إن كل خصائص الحياة الاجتماعية الخاضعة إلى عولمة نمط حياة المجتمع الصناعي الاستهلاكي، قد تؤدي إلى اعتبار وسائل الإعلام الجماهيرية التقليدية تضطلع بوظيفة مهمة في الواقع الاجتماعي اليومي أكثر من تلك الوظيفة المتخيلة افتراضيا حيث إن ظاهرة الاعتماد المتبادل مكنت نظم وسائل الإعلام من «الاستيلاء» على جزء من جاذبية وظائف النظم الاجتماعية الأخرى . 
لقد بلغ حجم نشر الصحف اليومي في العالم اليوم أكثر من 400 مليون صحيفة وتجاوز عدد القنوات الفضائية في العالم 5000 قناة، كما يوجد قرابة 7000 إذاعة أف أم على الأنترنات 61، وهي أرقام تؤكد مجتمعة مركزيّة وسائل الإعلام الجماهيريّة التقليديّة في حياة الأفراد والمجتمعات وتغلغلها في المعيش اليوميّ الاجتماعي على نحو يدعم ما يمكن وصفه التبعية المقصودة للفرد في حياة يوميّة يستأثر فيها التلفزيون والراديو والصحف بعدد مهم من ساعات اليوم الواحد . إضافة إلى انتشار وسائل الإعلام الجماهيريّة في الفضاءات كافة الخاص منها والعموميّ.




1- المؤشرات المقصودة تتصل بحجم الإقبال على وسائل الإعلام الجماهيرية: عدد قراء الصحف ونسب مشاهدة التلفزيون وكثافة التعرض للتلفزيون و تأثيرات وسائل الإعلام في سلوك الأفراد ومواقفهم...
2- يعرف توماس كون (T.Kuhn) الباراديغم بكونه إطارا من الفكر يهيمن على جماعة علمية معينة. انظر: 
Cabin (Philippe) et Dortier (Jean-François), La sociologie: histoire et idée, Paris, Sciences Humaines éditions, 2000, p.341.
3- لعله من المهم الإشارة إلى أن مفهوم البناء الاجتماعي مسلمة كبرى من مسلمات النظرية الوظيفية وأن هذا المفهوم ذاته أيضا يمثل موضوعا رئيسيا من مواضيع واهتمامات علم اجتماع الإعلام.
4- العبد الله (مي)، نظريات الاتصال،دار النهضة الحديثة،بيروت،2006، ص171.
5- Terrou (Fernand), Linformation, Paris, P.U.F., 1974, p.6.
6- العبد الله (مي)، المصدر السابق، نفس الصفحة.
7- Terrou (F.), Ibid, pp.7-9.
8- يضع الخبراء قائمة مطولة من وسائل الإعلام وهي الكتاب والخطبة والندوات والمؤتمرات والأسواق والمعارض والصحافة والإذاعات والتلفزيون ووكالات الأنباء. انظر: عطية (جبارة) ،علم اجتماع الإعلام، دار عالم الكتب للنشر والتوزيع،الرياض،1985، ص114-115-116.
9- يعتبر كل من تالكوت بارسونز وروبيرت ميرتون من أهم وجوه ما يسمى «الوظيفيون الجدد»
10- تولي النظرية التطورية أهمية للعوامل البيولوجية وصلتها بقوانين عمليات التطور بالمعنى الفيزيائي.
11- ليلة (علي)، «الوظيفية»، موسوعة علم الاجتماع،الدار العربية للكتاب، تونس، 2010، ص857.
12 Radcliffe-Brown) A.R. (, Structure et fonction dans la société primitiveت, Paris, ditions de Minuit, 1972,pp.282-284.
13- ليلة (علي)، المصدر السابق ، نفس الصفحة.
14- المصدر السابق، ص859.
15- عبدالعظيم (حسني إبراهيم)، «النظرية السوسيولوجية وقضايا الإعلام والاتصال»، الحوار المتمدن ،العدد 3402 بتاريخ 20 جوان 2011.
16- Mattelart) Armond et Michèle(, Histoire des théories de la communication, Paris ,Editions de la Découverte, 2004, p. 7. 
17- Terrou (Fernand), L?547;information, Paris, P.U.F., 1974, p.47.
18- Mcquail (Denis) ,Communication ,London et New york ,Longman, 1978,p. 156.
19- انظر :Severin (Werner J.) ,tankard (James W.) ,Communication theories ,Longman ,2001, pp.293-294.
وأيضا: عبدالمجيد (محمد)، نظريات الإعلام واتجاهات التأثير، عالم الكتب، القاهرة ،2004، ص272.
20- انظر : Mcquail (Denis) ,ibid. ,pp.23-31-96-174.
Severin (Werner J.) ,tankard (James W.) ,ibid. ,p.295.
21- Terrou (Fernand), L?547;information, Paris, P.U.F., 1974, p.60.
22- Maffesolli (Michel), la conquête du présent: pour une sociologie de la vie quotidienne, Paris, P.U.F, 1979, p.14.
23- Ibid, pp. 80-81-96.
24- عبد المجيد (محمد)، المصدر السابق، ص275.
25- Severin (Werner J.),tankard (James W.) ,ibid. ,pp. 296-297.
26- Ibid.,p.219.
27- يرى ميشال مافزولي مؤسس مركز دراسة الراهن واليومي أن الحياة اليومية تتكون من الرومانسي والوهمي والوجداني والعاطفي والعدواني والمألوف والخيالي... انظر pp. 74-86. Maffesolli (Michel), ibid.,
28- Mattelart) Armond et Michele(, ibid , p. 19.
29- في كتابه «المنظومية الاجتماعية» الصادر سنة 1951، يساند تالكوت بارسونز أطروحته التي يقدم فيها مفهوم المنظومة الاجتماعية معتبرا أن استقرار هذه المنظومة يشترط تلبية أربع وظائف وهي:
- التكيف مع المحيط الذي يؤمن بقاء المجتمع.
- متابعة الأهداف لأن المنظومة لا تقوم بوظيفتها إلا إذا اتجهت صوب هدف ما.
- اندماج الأعضاء.
- المحافظة على الأنماط والمعايير وبذلك فإن إضافة بارسونز تكمن في النظرة المنظومية للفعل الاجتماعي وفي أن كل منظومة ثانوية لا بد من أن تقوم بهذه الوظائف. انظر : Cabin (Philippe) et Dortier (Jean-François),ibid, p.109.
30- Radcliffe-Brown) A.R.(, Structure et fonction dans la société primitiveت, Paris, ditions de Minuit, 1972,p.40.
31- Cabin (Philippe) et Dortier (Jean-François), ibid., p.112.
32- جاء في استطلاع للرأي أُجري بتاريخ 28 أفريل 2011 وشمل 1828شخصا أن 91 فاصل 4 بالمائة من التونسيين أصبحوا بعد ثورة جانفي 2011 يهتمون بالأخبار مقابل 42 فاصل 5بالمائة فقط قبل الثورة. انظر :الموقع الالكتروني لوكالة تونس إفريقيا للأنباء
www.tap.info.tn
33- العبد الله (مي)، المصدر السابق، ص190-226.
34- للتوسع انظر: المصدر السابق ،ص226-243.
35- المصدر السابق، ص186-187.
36- يعرف عبد الوهاب المسيري التحديث بأنه «إعادة صياغة المجتمع بحيث يتم استبعاد المعايير العقلية العلمية المادية التي تتفق ومعايير الحداثة» انظر: المسيري (عبد الوهاب)، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، دار الشروق، الطبعة الأولى، القاهرة، 2002، ص 62.
37 - هاو (آلن)، النظرية النقدية: مدرسة فرانكفورت، ترجمة ثائر ديب، منشورات وزارة الثقافة السورية،دمشق،2005، ص17.
38- Marcuse (Herbert), Lhomme unidimensionnel, Paris, Minuit, 1965, pp.118-124.
39- Marcuse (Herbert), Raison et révolution, Paris, Minuit, 1968ت,pp.60-68.
40- Balle(Francis)ت, Les médias,Paris, P.U.F, اQue sais-je ب, 2004,p.118.
41- حيدر إبراهيم (علي)، «مدرسة فرانكفورت»، الموسوعة العربية لعلم الاجتماع، الدار العربية للكتاب، تونس، 2010، ص740.
42- بوتومور (توم)، مدرسة فرانكفورت، ترجمة سعد هجرس، دار أويا، الطبعة الثانية، طرابلس ،2004، ص94.
43- le Bon (Gustave), Psychologie des foules, 8E EDITION, Paris, PUF, 2003, p.52.
44- Marcuse (Herbert), ibid., p.36.
45- تناول بورديو مسألة تحكم التلفزيون في الاجتماعي .انظر: 
Bourdieu( Pierre), Sur la télévision, Paris, Raisons dagir, 1986, pp.80-84.
46 - هاو (آلن)، المصدر السابق، ص86.
47- العبد الله (مي)، نظريات الاتصال، دار النهضة العربية، بيروت،2006، ص197 200-.
48- Balle(Francis) ,ibid.,p.67.
49- Tchakhotine (Serge), Le viol des foules par la propagande politique,Paris ,Gallimard , 1992.
50- تشومسكي (نعوم) ، هيمنة الإعلام : الإنجازات المذهلة للدعاية، ترجمة الشهابي يحيى إبراهيم, دار الفكر ، 2003، ص14.
51- يوضح نعوم تشومسكي هذه الفكرة بضرب عدة أمثلة حول الدعاية والسلطة السياسية في الولايات المتحدة وكيف أنها تستخدمها بنجاح في فرض القبول عند المواطنين بسياسيات هي مرفوضة وغير مبررة ومن ذلك سياسة استخدام القوة العسكرية التي واكبتها دعاية تؤسس لاحترام القيم العسكرية. ويقول في هذا الصدد :» لذلك لا بدّ من غرس فكرة «احترام القيم العسكرية» في نفوس الشعب، كما قالت صحيفة واشنطن بوست بافتخار في أثناء هيستيريا حرب الخليج. ذلك أمر مهم. وإذا ما أريد خلق مجتمع عنيف يستخدم القوة في جميع أنحاء العالم لتحقيق غايات نخبته المحلية، لا بدّ من أن يكون هناك إعجاب مناسب بالقيم العسكرية وإزالة هذه المشاعر المرضية ضدّ استخدام القوة» انظر : تشومسكي(نعوم)،المصدر السابق،ص29-34.
52- أبرزت أطروحة دكتوراه أعدها الباحث خضر اللحياني عنوانها «أثر الفضائيات على المراهقين والمراهقات» أن 88 % من عينة البحث يرددون المفردات التي تستخدم في القنوات التلفزيونية والإعلانات.انظر الشرق الأوسط، 2ديسمبر 2012.
53- عبد المجيد (محمد)، نظريات الإعلام واتجاهات التأثير، عالم الكتب، القاهرة ،2004، ص330-333.
54- مثلا الدراسات النفسية التي قام بها G.Gerbner والتي منطلقها أن التقليد عنصر قوي في السلوك البشري خصوصا عند الأطفال.
55- Boudon (Raymond) , La logique du Social, Paris,Hachette,1979, pp.80-284.
56 Cabin ( Philippe) et Dortier ( Jean-François) , La sociologieت:histoire et idéesت, Paris, Sciences Humaines Editions, 2000, p.173. 
57- Goffman (Erving), Les rites dصinteraction, Paris, Editions de Minuit, 1974, p.21
58- Ibid., pp. 15-20.
59- عبد المجيد (محمد)، نظريات الإعلام واتجاهات التأثير، عالم الكتب، القاهرة ،2004، ص251.
60- Balle(Francis) , ibid.,p.91.