بعد تجاوز مرحلة إثباث الجدوى و المشروعية المعرفية ، صارت السوسيولوجيا تقدم نفسها خلال القرن العشرين، كفروع تخصصية قادرة على مواجهة مختلف تضاريس المجتمع بآليات الدرس و التحليل . فما من حقل مجتمعي إلا صار مستهدفا من قبل السؤال السوسيولوجي ، و في ذلك تأكيد على حساسية و أهمية السوسيولوجيا كمعرفة تتسم من جهة بالحذر الإبستيمولوجي الذي يفترض الصرامة القصوى في تسييج المواضيع ، و من جهة ثانية بسعة الصدر و شساعة دوائر الانشغال ، فالسوسيويولوجيا تقترح نفسها كمعرفة لتفهم مختلف الظواهر الاجتماعية و في جميع تمظهراتها و سياقات انبنائها .
في هذا الإطار ستلوح سوسيولوجيا الأدب كفرع من السوسيولوجيا العامة ، تنشغل بالضرورة بكل ما له علاقة بالإبداع الأدبي ، سواء في علائقه المفترضة مع المجتمع أو في تحليل و تتبع شروط إنتاجه و إعادة إنتاجه في الأنساق المجتمعية ، فالأدب و الأديب تحديدا لا يكون بمعزل عن الفعاليات و الظواهر و الحركيات التي تعتمل في رحاب المجتمع ، بل يوجد في كثير من الأحيان على خط التماس معها ، فليس هناك من أدب منفصل عن شروط المجتمع الذي يتأسس فيه ، و هذا ما يدفع فعلا إلى مساءلة الأديب و القاريء المفترض و الأثر الأدبي بآليات السوسيولوجيا .
ففيم تفيد سوسيولوجيا الأدب ؟ و هل من حاجة قصوى إلى هذه السوسيولوجيا التخصصية ؟ ماذا عن دوائر الانشغال و آليات الاشتغال ؟ ماذا عن الحصيلة و التراكم المعرفي في هذا الباب ؟ و إلى أي حد ساهمت سوسيولوجيا الأدب في خدمة الأدب أو بشكل عكسي في الانقلاب عليه ؟
في الجينيالوجيا
إن المبرر العلمي لميلاد هذا النوع من السوسيولوجيا ينبرز بامتياز في " اجتماعية " الأدب ، لأنه نتاج خالص لفعل مجتمعي ينتجه فاعل اجتماعي محدد و يتوجه به إلى فاعلين آخرين في سياقات اجتماعية محددة ، فالاجتماعي حاضر بقوة في جميع مراحل " الدورة البيولوجية " للعمل الأدبي . لهذا كان من الضروري أن تهرع السوسيولوجيا إلى تكريس جهودها العلمية في إطار هذا الفرع التخصصي من أجل دراسة تنظيم و وظيفية المؤسسة الأدبية في المجتمع و تحليل العلاقات القائمة بين العمل الأدبي و المجتمع الذي يولد فيه هذا العمل و يمتح منه أيضا .
إن ظهور سوسيولوجيا الأدب هو محصلة نهائية لتراكم عدد من الدراسات و التحليلات الما قبل سوسيولوجية ، فمن الضروري أن نميز بين سوسيولوجيا الأدب كفرع سوسيولوجي خالص يؤسس حضوره و اشتغاله على البراديغم السوسيولوجي ، و بين الأعمال الما قبل سوسيولوجية التي اهتمت بالأدب و هذه كثيرة للغاية ، و تقع على خطوط الاتصال مع كثير من الأعمال اللسانية و النقدية .
و يمكن اعتبار أعمال الإيطالي فيكو من الكلاسيكيات المرجعية و المؤسسة لهذا العلم ، ففي كتابه " مبادئ العلم الجديد" الصادر سنة 1725 حاول الباحث أن يبين العلائق القائمة بين المنتوج الأدبي و النسق الاجتماعي الذي ينتج فيه هذا الأدب ، مؤكدا على أن كثيرا من الأنواع الأدبية ما كانت لتظهر لولا السياقات و الشروط الاجتماعية المرتبطة بها فالملاحم بالنسبة إليه ارتبطت بالمجتمعات العشائرية ، و المسرح ارتبط بمجتمع المدينة الدولة ، و الرواية ارتبطت بظهور المطبعة و انتشار التعليم .
و من جهة ثانية يمكن اعتبار كتاب " الأدب في علاقته بالمؤسسات الاجتماعية " لدي ستايل من الأعمال الممهدة لسوسيولوجيا الأدب ، فقد أبرزت في كتابها هذا جدل التأثير و التأثر القائم و المستمر بين الأعمال الأدبية و الشروط التاريخية و الاجتماعية معتبرة أن كل عمل أدبي يتغلغل في بيئة اجتماعية وجغرافية ما، حيث يؤدي وظائف محددة بها، ولا حاجة إلى أي حكم قيمي، فكل شيء وجد لأنه يجب أن يوجد"
هكذا تواصلت التصورات و المفاهيم حول الأدب و المجتمع إلى غاية انتعاش حركة النقد الأدبي بحلول القرن التاسع عشر ، مع ما رافق هذا الانتعاش من تعدد مقارباتي في تناول و تحليل و تذوق الأدب أيضا ، حيث ستكثف علوم و معارف عديدة كل جهودها من أجل تفهم و تحليل الأدب ، بدءا من الأدب ذاته في إطار فروعه التي تعني بالنقد و التحليل الأدبي ، إلى اللسانيات و السيميولوجيا و علم النفس و الأنثروبولوجيا و التاريخ .
في هذا الإطار ستجد السوسيولوجيا نفسها مطالبة بالإجابة عن أسئلة العمل الأدبي في علاقته مع الشروط الاجتماعية ، و بذلك فسوسيولوجيا الأدب سوف لن تخدم الحقل الأدبي فقط بتقديم خلاصات حول شروط إنتاجه و إعادة إنتاجه ، بل ستخدم براديغمها الخاص ، عبر تدشين مداخل جديدة لقراءة المجتمع من خلال منتوجه الأدبي ، و هو ما يفيد علميا و عمليا في فهم و تفهم الأنساق المجتمعية.
ما الأدب؟
لكن قبلا ما الأدب ؟ ما الذي يعنيه هكذا موضوع في رحاب العيادة السوسيولوجيا ؟ و علام يؤشر كقيمة و ممارسة أيضا ؟
البحث عن مدلول كلمة الأدب عبر المعاجم سيفضي بنا إلى تعاريف لا يمكن حصرها بالمرة، ففي لسان العرب نجد كلمة أدب تشير إلى " الذي يتأدب به الأديب من الناس، سمي أدبا ، لأنه يؤدب الناس إلى المحامد، وينهاهم عن المقابح أما القاموس المحيط فيؤكد على أن الأدب يعني الظرف وحسن التناول . و من الناحية الاصطلاحية فالأدب يدل على فن من الفنون وسيلته اللغة ، بل هناك من اعتبره مؤسسة اجتماعية، أداتها اللغة .
فالأدب في البدء و الختام يظل لغة إبداعية تتوسل بتقنيات و آليات للتعبير عن فكرة ما ، بمعنى أن سؤال الغائية يظل حاضرا في جميع مستويات هذه اللغة ، سواء بالانفتاح على ما هو ذاتي صرف أو ما هو مجتمعي عام ، فما من أدب إلا و ترقد وراءه مجموعة من الخلفيات و الغايات المحركة لفعالياته و تكويناته المفترضة . إنه من الممكن جدا " إطلاق "الأدب " ، من وجهة نسبية ، على مجموع الكتابات ، التي يتخذها مجتمع و زمن ما أدبا له " ، و بالطبع فتوصيف كتابة ما أدبا و نزع هذه الصفة عن أخرى تتحكم فيه بالضرورة أبعاد الحكم الجمالي ، الذي تسطر بإتقان تام داخل النسق الإبداعي المحلي ، علما بأن قواعد التوصيف و التصنيف هاته تتعرض بدورها للتحول و التغير ، اتصالا بالتغيرات التي يعرفها النسق العام .
لكن هذا لا يعني أن الأدب يتوقف على المكتوب فقط ، فهناك الأدب الشفاهي و الشعبي المتواتر عبر الأجيال ، بما يعني أن الانكتاب ليس شرطا نهائيا و وحيدا لتوصيف الأدب . و بالمقابل فالشرط الوجودي للأدب هو الاتجاه الجمالي و الفني ، فما لم يكن المكتوب أو المنطوق حائزا على درجات معينة من الجمالية و الفنية الإبداعية ما أمكن وضعه أو تجنيسه أدبيا .
فالأدب نشاط إنساني معبر عن الفعالية الاجتماعية و الثقافية للمجتمع ، و معبر في الآن ذاته عن مختلف الديناميات التي تعتمل في رحاب هذا المجتمع وفقا لأساسيات درس سوسيولوجيا الأدب ، التي لا تستهدف علوم الأدب المتصلة باللغة و النحو و الصرف و البلاغة .. بقدر ما تتوجه على فنونه و أجناسه كالشعر و القصة و المقامة و المقالة و الرواية ... بغرض الوصول إلى الشروط السوسيوسياسية لإنتاج الأدب .
الأدب و المجتمع
العلاقة بين الأدب و المجتمع قائمة بالفعل و بالقوة، فالأدب لا يكون أدبا إلا في ظل شروط اجتماعية محددة، فالأديب المنتج للعمل الأدبي، هو في البدء و الختام فاعل اجتماعي قادم من مجتمع معين. و المتلقي المفترض لهذا المنتوج الأدبي / الاجتماعي هو فاعل اجتماعي آخر ، و النسق العام الذي يحتضن هذه العملية يظل هو المجتمع بفعالياته و أنساقه الفرعية الأخرى .
فعلى مستوى حقل الاشتغال يتأكد واقعيا بأن هذا الحقل يتم بالنسبة للأديب و الأدب و المتلقي على صعيد المجتمع ، فالأدب مشروط من حيث إنتاجيته و تداوليته بوجود المجتمع ، و إلا ما أمكن " تقديره" و اعتباره أدبا . أما على مستوى آليات الاشتغال و مولداته ، فإن الاجتماعي يلعب دورا بالغا في إنتاج الأدب و بلورة الرؤى و المسارات المؤطرة له . و إن كان أنصار التحليل النفسي يذهبون إلى الربط الصارم بين العملية الإبداعية الأدبية و بين العناصر السيكولوجية ، فإن الدرس السوسيولوجي يلح على التداخل و التشابك بين عدد من العناصر النفسية و الاجتماعية و السياسية و الثقافية في صناعة الأدب ، و هي عناصر يمكن إجمالها في سؤال " المجتمع " فعملية الإنتاج الأدبي والإيديولوجي لا تنفصل بالمرة عن العملية الاجتماعية العامة" .
فالأدب ليس نتاجا خالصا لما هو نفسي كما يلح على ذلك أنصار التحليل النفسي ، و الذي يذهبون إلى حد الربط بين بعض الأمراض النفسية و النزوع نحو الكتابة ، بل هو محصلة نهائية لتداخل عوامل مجتمعية يحضر فيها النفسي و الجمعي و التاريخي ، بمعنى أن الأدب ملازم للأدب في شروط الإنتاج و تفاصيله أيضا . فالأدب لا يمكن أن ينفصل عن سياقه المجتمعي ، فكل نص أدبي ليس سوى تجربة اجتماعية ، عبر واقع و متخيل و بالرغم من كل المسافات الموضوعية التي يشترطها بعض الأدباء لممارسة الأدب ،فإن المجتمع يلقي بظلاله على سيرورة العملية الإبداعية ، بل و يوجه مساراتها الممكنة في كثير من الأحيان ، فلا أدب بدون مجتمع ، و لا مجتمع بدون أدب ، فلكل مجتمع أدبه و لكل أدب مجتمعه الذي ينكشف من خلال نصوصه و رواياته الشفاهية .
الطموحات القصوى
ينبغي التأكيد بداية على أن سوسيولوجيا الأدب لا تقترح نفسها كبديل عن الدراسات و المناهج الأدبية التي تعنى بتفسير الأدب ، بل تعلن عن ذاتها كمعرفة تحليلية تشتغل على العلائق المكنة التي يدشنها الأدب مع أبنية المجتمع و حركياته ، لقد جاءت هذه السوسيولوجيا لتفكك المتن الأدبي و تسائل شروط إنتاجه في الأنساق و الوضعيات الاجتماعية المختلفة باعتماد مقاربات مغايرة ، و لهذا فقد كشفت التشابكات التي تبصم الأدب في علاقاته المفترضة مع النسيج المجتمعي ، فسوسيولوجيا الأدب تتغيا تفكيك العلائق القائمة بين الكاتب و العمل الأدبي و المجتمع من جهة ثالثة ، و ذلك بهدف الوصول إلى تفهم علمي للأسباب المؤدية إلى هذا الإنتاج في موضوعه و قيمته و ممارسته أيضا ، لهذا تصير نتائج هذا التفهم مفيدة أيضا في قراءة مجموع النسق العام الذي ينتج فيه هذا العمل الأدبي ، ما دام هذا الأخير عاكسا بشكل أو بآخر لما يمور في رحاب هذا النسق المجتمعي . فلا بد من إبراز الأدوار التي يلعبها المجتمع في صياغة النصوص الأدبية، في مختلف المجتمعات، وفي عهود متباينة، مما يكشف عن اختلاف وتنوع الأدبيات من عصر إلى عصر، ومن مجتمع إلى آخر. ويوحي بوجود ارتباط بين الأدب والمجتمع .
إن سوسيولوجيا الأدب تلوح في بعض الأحيان كمعرفة مشغولة فقط بإنتاج الأدب و نشره و استهلاكه ، و في مرات أخرى تتقدم كنموذج علمي للنقد الأدبي ، خصوصا مع موجة النقد السوسيولوجي التي استحوذت على النقاش السياسي خلال منتصف القرن الماضي و ما بعده ، و لكنها في الواقع تجمع في مطبخها الداخلي عددا من المقاربات التي تحلل مختلف المظاهر الأدبية داخل النص و خارجه ، بين الكاتب و المتلقي ، الأدب عموما و المجتمع ، و هذا التقابل الموضوعاتي هو الذي يكشف عن الحدود المعرفية لسوسيولوجيا الأدب.
إن سوسيولوجيا الأدب تتوجه إلى الأدب بالدرس و التحليل كموضوع ، كقيمة و كمممارسة ، فالمقاربة الموضوعية وفقا لهذا التقسيم تعني دراسة الأدب في اتصالا بكل الوسائط التكنولوجية و السسميولوجية و الجمالية و المؤسسية التي تتيح الوصول إلى النصوص الأدبية ، أما المقاربة القيمية فهي تتمحور حول سؤال مركزي و هو :" ما الذي يجعل العمل أدبيا ؟" مع الأخذ بعين الاعتبار مختلف المؤشرات التي تتفرع عن هذا السؤال ، في حين نجد المقاربة الممارساتية تركز على الأدب على وجه الخصوص من منظور الاستهلاك
المشارب و المسارات
و لأن الظاهرة الأدبية تشكل حضورا عاليا في أغلب تفاصيل المجتمع ، و لأن المداخل العلمية إليها تظل متعددة بشكل لافت ، فقد كان ضروريا أن تؤسس سوسيولوجيا في مطبخها الداخلي سوسيولوجيات أخرى أملا في التمكن معرفيا من حدود و امتدادات الظاهرة ، و هكذا بتنا نتابع منذ بداية الستينيات من القرن الماضي تواترا في إنتاج الفروع السوسيولوجية تحت يافطة سوسيولوجيا الأدب ، لقد صرنا نقابل باحثين متخصصين في سوسيولوجيا القراءة و سوسيولوجيا الرواية و سوسيولوجيا النقد و سوسيولوجيا الأنواع الأدبية ...
إن هذا التطور المعرفي الذي عرفته سوسيولوجيا الأدب ما إلا تراكم تاريخي لإسهامات كثير من الرواد غير القادمين حتما من البراديغم السوسيولوجي ، فأعمال لوسيان غولدمان(laucian Goldman ) الذي اهتم بالتحليل الاجتماعي للرمز الفنية في الأدب ، تعد من الكلاسيكيات الأساسية للمقاربة الاجتماعية للأدب ، و نفس الأمر ينطبق على أعمال أمبيرتو إيكو ، و جورج لوكاتش و رولان بارت و جاك لنهارت و ميشال زورفا و قبلهم الإيطالي فيكو و مدام دي ستايل .
فجورج لوكاتش (1885 ـ 1971) يعتبر من المؤسسين الأوائل لسوسيولوجيا الأدب، فبدءا من كتابه النقدي " نظرية الرواية " الصادر عام 1920 حاول لوكاتش أن يقطع مع التدبير الانطباعي للنصوص ، و أن يؤسس لقول علمي حول الأعمال الأدبية ، و في نظريته الروائية هاته ، يؤكد لوكاتش مرة أخرى ما ذهب إليه الإيطالي فيكو بأن تطورات الإبداع الأدب هي ترجمة واقعية لتطورات أخرى يشهدها الشرط الاجتماعي ، و في هذا الصدد يبين لوكاتش بأنه إذا كانت اليونان قد عاشت حضارة محكومة بالعقل و الدين في آن ، فقد انعكس ذلك مباشرة في إنتاجها الأدبي الذي توزع على الملاحم و الدراما و الفلسفة و البطل التراجيدي ، أما أوربا القرون الوسطى فقد أصبحت فيها الرواية الشكل الأدبي الأكثر حضورا لما صارت الحياة بالغة التعقيد ، اما الرواية في القرن العشرين فقد انمازت بالأساس بحضور البطل الرافض للعالم ، و في ذلك توضيح لحقيقة هذا العالم . لم ينته جورج لوكاتش عند هذا الحد في التدليل على العلاقات القوية بين العمل الأدبي و الظرف الاجتماعي ، بل سيؤكد ذلك بالملموس في كتاب آخر بعنوان " الرواية التاريخية " سنة 1937 ، رابطا هذه المرة بين التطور الاقتصادي و الاجتماعي و النوع الأدبي الذي ينتج في ظله .و هو دفع البعض إلى اعتباره مؤسسا مجددا للتحليل المادي الماركسي للأدب .
و على درب اكتشاف طبيعة المشارب و المسارات الخاصة بسوسيولوجيا الأدب نجد علما بارزا و هو ميخائيل باختين (1895 ـ 1975) الذي ساهم بدوره في إرساء قواعد سوسيولوجيا الأدب الماركسية ، فقد انشغل بتطبيق قواعد االتحليل الماركسي على النصوص الأدبية و من داخلها تحديدا ، و هذا ما يفترض إعمال المنهج الاجتماعي لدراسة النص الأدبي بالمراوحة الدائمة بين الجدلين العام والخاص ، اعتبارا لكون العبارة الانسانية نتاجاً للتفاعل بين اللغة المنطوقة وسياق النطق. أي بين الكلمة الفردية وسياقها التاريخي، و هذا ما راهن على إبرازه في كتابيه: " أعمال رابليه والثقافة الشعبية في العصور الوسطى وعصر النهضة" سنة 1965 و " شعرية دستويفسكي" سنة 1963 .
أما لوسيان غولدمان (1913-1970) الذي يعتبر نفسه تلميذا لكل كارل ماركس و جورج لوكاتش ، تخصص دراسيا في الاقتصاد السياسي قبل أن يلتحق بالمركز الوطني للبحث العلمي بباريس و يعد رسالة دكتوراه في الأدب تحت عنوان "الإله المختفي: دراسة للرؤيا المأساوية لأفكار باسكال ومسرح راسين" سنة 1956 مثيرا بعمله هذا كثيرا من النقاشات حول النقد الأدبي ، ليستمر في التخصص علميا في سوسيولوجيا الأدب مع تعيينه مديرا لهذا القسم بجامعة بركسيل الحرة سنة 1964 ، متوجا هذا الانشغال المهني و العلمي بكتاب مرجعي و هو " من أجل سوسيولوجيا الرواية ". و من أجل تفهم العمل الأدبي و موضعته في شرطه الاجتماعي يقترح لوسيان غولدمان في " المنهجية في سوسيولوجيا الأدب براديغمات أولية لدراسة الأدب ، إذ يلح على أن الأدب يفهم انطلاقا من المجتمع ، و أن هذا الأخير يفهم أيضا بواسطة الأدب . كما يذهب إلى التأكيد على أن المندز الأدبي و على الرغم من ارتباطه الشكلي بالفرد ، فهو يعبر عن الحس المشترك الجمعي ، و هذه العلاقة القائمة بين الأدب الشرط الاجتماعي هي التي تمنح العمل الأدبي وحدته و حضوريته. و بذلك فلوسيان غولدمان يؤكد غير ما مرة على الترابط الوثيق بين النموذج الروائي الذي عرفته أوربا و طبيعة هذا المجتمع في زمن معين ، منتهيا إلى القول بأن الرواية الجديدة الفرنسية هي نتيجة تحوّل اجتماعي، وليست نتيجة تحوّل أدبي يهفو إلى تطوير الأساليب و الصيغ الممكنة للأدب .
من رواد سوسيولوجيا الأدب نجد أيضا جاك لينهارت الذي تتلمذ على يد لوسيان غولدمان ، ففي كتابه " قراءة سياسية للرواية " الصادر سنة 1973 ، حاول أن يقرأ المشهد المجتمعي من خلال نموذج رواية " الغيرة " لآلان روب ، و ذلك بالتركيز على البنى الإديولوجية و ملامح الطبقات الاجتماعية و العلاقات الوظيفية التي يطرحها " وعي الرواية " ليخلص إلى الإشارة إلى أن اختفاء الشخصية المحورية في هذه الرواية ، هو تأشير دال و قوي على هشاشة الفرد في نمط رأسمالي قائم على الاستهلاك و التدجين و التبضيع .
و يعتبر روبير اسكاربيت من أهم الباحثين الذين دشنوا الدرس السوسيولوجي الأدبي ، فقد حاول هذا الباحث منذ البدء أن يثير الانتباه إلى أهمية المقاربة السوسيولوجية للإنتاجات الأدبية ، مؤكدا بأن الارتكان إلى هذه المقاربة يسعف كثيرا في فهم العمل الأدبي و سياقه الاجتماعي، فالأدب بالنسبة إليه لا يمكن تفسيره إلا في شموليته، و ذلك بالنظر إلى آليات إنتاجه ، فالعمل الأدبي ليس نتاجا خالصا للكاتب فقط ، و لكنه تعبير و ترجمة واضحة و مرموزة للشروط الاجتماعية التي تؤثر في سيرورة الإبداع و لهذا فسوسيولوجيا الأدب تركز على الكاتب و عمليات النشر و التداول الأدبي كما تنشغل أيضا بدراسة السياق الاجتماعي للإبداع الأدبي ، الشيء الذي يمكن من فهم و تفهم جيد للعمل الأدبي و للوصول إلى مطمح الفهم هذا فقد وجد إسكاربيت نفسه يستعير كثيرا من التقنيات المنهجية من الاقتصاد ليدرس طبيعة الإنتاج و التسويق و الاستهلاك كعناصر بارزة في الدورة الطبيعية للعمل الأدبي .
و من جهة أخرى يمكن اعتبار بيير زيما من الباحثين المعاصرين المتميزين في ميدان سوسيولوجيا الأدب ، و ذلك بالنظر إلى اجتهاداته القيمة في اتجاه إبراز العلائق القائمة بين المنتوج الأدبي و المجتمع الذي ينتمي إليه ، فمرورا بعدد من التحليلات النقدية و المقاربات السوسيولوجية، كالسوسيولوجيا الأمبريقية للأدب و الواقعية الاجتماعية و البنيوية التكوينية ، حاول بيير زيما أن يؤسس سوسيولوجيا جديدة للنص تدرس الأدب كظاهرة مرتبطة بنسق دال فلسفي أو إيديولوجي ، كما حاول دراستها في انفصالها كتقنية خالصة أو تنظير ذي طابع سوسيوتاريخي للمصالح الاجتماعية ، مانحا الشرط السوسيولوجي الأسبقية في فهم و تفسير الأدب .
النقد الأدبي
إن علوم الأدب تهفو دوما إلى صياغة نظرية عامة للأدب، عن طريق إيجاد أدوات و آليات صارمة للقراءة و التحليل، تمكن ختاما من فهم الأدب و تفسيره بشكل علمي و موضوعي. و بما أن الرهان المركزي لكل المعارف الإنسانية هو الوصول على أقصى درجات العلمية ، فإن الأدب ذاته وجد نفسه كصناعة إبداعية مدعوا لاختبار و استلهام مجموعة من النظريات و النتائج التي اهتدت إليها علوم أخرى، و ذلك أملا في تكريس الطابع العلمي ، و عليه فقد تم الارتكان إلى كثير من العلوم التي أثبتت جدواها المعرفية عن طريق الأدب تحديدا كالسيميولوجيا مثلا .
في سياق هذا التسابق المشروع حو علمنة الأدب ، لاح النقد الأدبي كفرع معرفي ضمن خارطة علوم الأدب يتغيا تفسير المنتوج الأدبي باعتماد خطاطات تحليلية مرتهنة سلفا إلى نظريات أدبية عامة ، و لعل هذا ما دفع رولان بارث إلى اعتبار موقعه متوسطا بين العلم و القراءة . فالنقد الأدبي هو إمكان قراءة و تحليل ، إنها اشتغال علمي على الأدب ، من أجل اكتشاف حدود و ملامح مبناه و معناه ، و هذا يعني أن النقد الأدبي ، لا يقف عند حدود الوصف و التفسير ، بل يسعى إلى الفهم و الحكم أيضا على درجة الإبداعية في النصوص الأدبية ، و هذا ما يعطيه بعدا تقييميا يكشف نواحي القوة و الضعف في المشروع الأدبي .
منذ القرن التاسع عشر شهد النقد الأدبي ثورة مفاهيمية و مقارباتية ، تنوعت و تضاربت على إثرها المناهج النقدية ، التي لم تعد تخفي الانتماء الإيديولوجي الذي يبصم اشتغالها و تعاطيها مع النصوص ، و بذلك بدت المناهج النقدية معبرة في كير من الأحيان عن مختلف ألوان الطيف السياسي و الإيديولوجي التي كانت سائدة آنئذ ، و كان ضروريا أن ينتظر الأدب إلى حدود منتصف القرن الماضي إمكان الحديث عن نقد أدبي موغل في العلمية و متحرر من الإيديولوجيا، لتتوزع المناهج النقدية هذه المرة على العلوم الإنسانية بدل الأطياف الإيديولوجية ، و يظهر النقد السيكولوجي و السوسيولوجي و البنيوي و الشكلاني ...
و يمكن القول بأن النقد السوسيولوجي قد خدم الأدب أكثر من باقي المناهج النقدية الأخرى ، بل إن أغلب القراءات العلمية و الرصينة للأدب كانت قادمة من رحم النقد السوسيولوجي أو على الأقل متأثرة به . فعلى امتداد تطورات هذا النقد من حيث تجديد الأدوات و الصيغ المحتملة لدراسة النص الأدبي بدا النقد السوسيولوجي الأقرب إلى قراءة النصوص في اتصالها الوثيق مع تربة الواقع الذي أنبتها و جعلها تبدو في صورة هذا الجنس أو غيره .
أهمية النقد السوسيولوجي لا تكمن فقط في وجاهة مقارباته للنصوص ، بل تتحدد أيضا في كونه ساهم إلى حد كبير في التأصيل العلمي لسوسيولوجيا الأدب ، فالنقد السوسيولوجي سابق على التأسيس العلمي لهذا الفرع من السوسيولوجيا العامة ، إن التراكم الذي خلقه هذا النقد هو الذي أوجب ضرورة توسيع حقول الاشتغال و تطوير آلياته على درجة التخصص المعرفي و التوزع بالتالي على مباحث تخصصية أخرى كسوسيولوجيا القراءة مثلا.
الأجيال الأدبية
يعتبر مفهوم الجيل من المفاهيم المركزية داخل مطبخ سوسيولوجيا الأدب ، فالجيل لا يشير فقط إلى التحقيب الزمني ، بل يدل أيضا على الملامح الاجتماعية التي تبصم أدبا و مجتمعا بعينه ، و بذلك فالجيل الأدبي يتخذ معنى الجماعة من المبدعين الذين تتوحد أو تتركز انشغالاتهم الأدبية و المعرفية حول موقف أو قضية محددة ، الشيء الذي يقودهم نحو تعميق النقاش حول ذات القضية و إنتاج طروحات متقاربة أو مختلفة بصددها ، و هو ما يؤدي ختاما إلى تبلور تيار إبداعي تنتجه الشروط السوسيوسياسية حتما ، و بذلك يصير مفهوم الجيل دالا على التحولات و التغيرات التي يعرفها المشهد المجتمعي في كليته .
فالأجيال الأدبية التي لاحت في تاريخ الأدب ما هي إلا ترجمة " أدبية " لما كان يجيش به المجتمع المحلي ، فالدرس السوسيولوجي الأدبي يلح كثيرا على الربط بين المتغيرات الخارجية و الإنتاجات الأدبية ، فقراءة المجتمع في زمن و مكان ما تغدو ممكنة عبر قرائح الأدباء .
و السؤال المركزي الذي يطرحه الدرس السوسيولوجي في دنيا الأدب و ذلك اتصالا بمفهوم الجيل ، يتحدد بالضرورة في الشروط المنتجة للجيل كجماعة و مواقف ، بما تعنيه هذه الشروط من آليات إنتاج و إعادة إنتاج ، في سياق التبادلات الرمزية و المادية للفعل الثقافي ، مع استحضار كل عوامل التأثر و التأثير التي يفرضها التقاطب و التداخل مع ما هو مجتمعي ، هذا بالإضافة إلى محاولة فهم إمكانيات الانبناء و التعاقب الجيلي . فما الذي يعنيه تعاقب الأجيال الأدبية ؟ و ما الذي يعنيه انبناء جيل أدبي على أنقاض سابق منته إلى زوال ؟ و ما الديناميات المتحكمة في الولادة و الانتهاء ؟
لق حاول روبير اسكاربيت في سوسيولوجياه الأدبية أن يجيب عن هذه الأسئلة من خلال رصده لتعاقب الأجيال الأدبية في أوروبا و تبرير ظهورها ، مؤكدا بأن ميلاد جيل هو رد فعل محتمل على الواقع الاجتماعي ، و هو ما يعضد رأيه بخصوص اجتماعية الأدب ، لكن اسكاربيت لا يطمئن كثيرا لمصطلح الجيل ، و لهذا يستعيض عنها بالجماعة ، و ذلك بسبب ما تحيل عليه كلمة الجيل من معنى زمني في مطلق الأحوال ، و أيضا لكون الجماعة أكثر المصطلحات تعبيرا عن الدينامية الاجتماعية . فخلال القرون الوسطى بأوروبا لم يتوقف استبداد العائلات الأرستقراطية عند حدود السياسة فقط ، بل امتد إلى مستوى الأدب ، بحيث بدأت الكثير من الأعمال الأدبية تنطق بلسان حال هذه العائلات ، و تسوق الصورة الإيجابية عن هؤلاء المالكين لوسائل الإنتاج و الإكراه، و عليه فقد صار أغلب أبطال الأعمال الأدبية، من الملوك و الأمراء و النبلاء.
وفقا لهذا الفهم يصير ممكنا تشريح الواقع الاجتماعي و تحولاته بالأساس عبر متابعة الأجيال الأدبية في تعاقبها و تناقضها، بحيث يبدو ظهور جماعة أو جيل أدبي ، حركة اجتماعية ذات مطالب سوسيوسياسية بالضرورة ، كما يعبر ظهورها هذا عن حركات أخرى موازية تعتمل في النسيج المجتمعي ، و بذلك فسوسيولوجيا الأدب تتيح إمكانيات أخرى لقراءة المجتمع في حركيته و تناقضاته عبر ظاهرة الأجيال الأدبية ، التي لا تعبر فقط عن اتجاهات أدبية صرفة ، بل تعبر أيضا عن جانب مهم من الحياة الاجتماعية .
لنتأمل إذن الجيل الأدبي المغربي الستيني / السبعيني ، ألا يمكن أن نقرأ في نتاجاته الأدبية درجة الاحتقان السياسي التي عاش على إيقاعها المغرب خلال تلك الفترة ؟ و لنتأمل الجيل الأدبي المغربي الثمانيني / التسعيني ألا يمكن أن نقرأ في إبداعيته النصية الهشاشة الاجتماعية التي ما زالت تتواصل آثارها لحد الآن ؟
ختاما
و ما يتوجب التأشير عليه في حديث المشارب و المسارات هو أن الدرس السوسيولوجي الأدبي ، ما زال في بداياته ، بالرغم من كل التراكمات التي خلفها الباحثون ، و التي تتفرع إلى أعمال سوسيولوجية وفية للبراديغم السوسيولوجي ، و أخرى ما قبل سوسيولوجية لم تتحرر من الطيف الإيديولوجي أو السياسي الذي أنتجها . إنها البداية فقط و سوسيولوجيا الأدب مؤهلة لمزيد من الاتساع الكمي و الكيفي على مستوى الأبحاث و الآليات و المقاربات ، خصوصا مع المكانة التي صار يحتلها الأدب في المجتمع العالمي باعتباره صناعة و استهلاكا و أرقاما مالية قبل أن يكون إبداعا.
إن قيم السوق باتت تستهدف الأدب و تراهن عليه في تحقيق معاملات عالية الكعب، و السياسات التنموية أيضا باتت تراهن عليه في مشاريع التحديث و مجابهة التخلف ، و لهذا صارت سوسيولوجيا القراءة بالضبط مخطوبة الود من قبل المستثمرين في ميدان الأدب . و ليس هذا الدافع الاقتصادي هو الذي سيحسم تطور سوسيولوجيا الأدب مستقبلا ، و غنما هناك عوامل أخرى متصلة بالمجتمع في عموميته ،فالتعقد و التشابك الذي يميز الظواهر الاجتماعية ، يفترض البحث عن مدخلات و مخرجات جديدة لقراءة تضاريس المجتمع ، خصوصا عندما يتعلق الأمر بمناطق الظل و العتمة ، و كذا بالحقب الفائتة و المسكوت عنها ، فمغرب السبعينيات مثلا بألغازه و سوء أحواله السياسية و الاجتماعية ، يمكن قراءته بكثير من الوضوح عبر المتن الأدبي .
إلى ذلك تظل سوسيولوجيا الأدب مبحثا علميا خالصا ينهجس بكثير من الأسئلة العميقة التي لا تتمثل الأدب كنتاج إبداعي منفصل عن واقعه ، بل كواقعة اجتماعية كفيلة بالكشف عن أسرار العلبة السوداء لمجموع النسق ، فما الشروط السوسيوسياسية لصناعة الأدب ؟ و كيف يمكن قراءة تضاريس المجتمع عبر بوابات الأدب ؟ و فيم يفيد الأدب تحديدا ؟ إن مثل هذه الأسئلة هي التي تعطي المشروعية المعرفية لهذه السوسيولوجيا و هي التي توجب الحاجة إليها هنا و الآن .
الهوامش :
1 ESCARPIT (Robert). SOCIOLOGIE DE LA LITTÉRATURE. Paris, Presses Universitaires de France, 1958, Coll. Que sais-je ? n° 777, 5e édition 1973,p. 7.
ESCARPIT (Robert). SOCIOLOGIE DE LA LITTÉRATURE.ibid . p 128
جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور ،لسان العرب، ، دار النشر صادر، بيروت، الطبعة الثالثة ، المجلد الأول ، ص.
الفيروز آبادي، القاموس المحيط، ، تحقيق مكتب تحقيق التراث، تحت إشراف: محمد نعيم العرقسوسي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الرابعة ، 1994 .ص.
رينيه ويليك وأوستن دارين ، نظرية الأدب: ، ترجمة محيي الدين صبحي، مراجعة:حسام الخطيب، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، دمشق، الطبعة الثالثة . ص 119 .
سعيد علوش ، معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة ، مطبوعات المكتبة الجامعية ، البيضاء ، الطبعة الأولى ، 1984.ص.19.
جورج لوكاش" دراسات في الواقعية"، ترجمة نايف بلوز، دار الطليعة،دمشق،الطبعة الثانية ، سنة :1972، ص. 42.
سعيد علوش ، معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة ، نفس المرجع السابق ، ص.125
Jérôme Meizoz. L Oeil sociologue et la Littérature, Essai, Slatkine Erudition, 2004, p.122
Jérôme Meizoz. L Oeil sociologue et la Littérature.ibid .p.123.
حسين عبد الحميد أحمد رشوان،الأدب والمجتمع دراسة في علم اجتماع الأدب ، المكتب الجامعي الحديث الاسكندرية ، الطبعة الأولى 2005.ص.16.
Paul Dirkx , Sociologie de la littérature, Collection : Cursus.2000.p.38.
Ibid.p.111.
.ibid . p 112.
Pierre Zima,pour une sociologie du texte littérature,editions-harmattan ,paris.2000.p.10.
سعيد علوش ، مرجع سابق ، ص.124.
0 التعليقات:
إرسال تعليق