تتميز حياة المدينة بالمغرب بتنظيم مجتمعي معقد بعكس مغرب العميق أي الريف أو القرية،
وما يميز هذا التعقيد هو بروزها على مستوى الثقافة الحضرية والمتمثلة في السلوك الاجتماعي والنشاط الاقتصادي والبنية العمرانية والديمغرافية. فما الثقافة؟ وما الحضرية؟ وما خصوصيات الثقافة الحضرية؟ هذا ما سوف نحاول الإجابة عليه في عرضنا الآتي.
المحور الأول: مفاهيم ومصطلحات علمية:
لا بد أن أشير إلى أن تحديد المفاهيم وتعريفها يعتبر من أهم المراحل الأساسية في البحث السوسيولوجي والأنثروبولوجي، لأن تحديد المفاهيم يساعد كل من الباحث والقارئ نفسه من فهم واستيعاب معطيات البحث وإشكالاته.
أولا: مفهوم الثقافة
يعتبر مفهوم الثقافة من المفاهيم التي اهتم بها العديد من المتخصصين في العلوم الاجتماعية، مما سمح بتعدد تصورات ومواقف حول هذا المفهوم، الشيء الذي أدى إلى عدم الاتفاق على الدلالة والمعنى للثقافة نظرا لتعدد أصنافها بسبب الظروف التاريخية والسياسية والاقتصادية التي عرفتها المجتمعات الإنسانية. وللتعرف أكثر على مفهوم الثقافة يمكننا استعراض مجموعة من التعاريف العلمية في الحقل سوسيوأنثروبولوجيا وهي على النحو التالي:
في قاموس مصطلحات الإثنولوجية والفلكلور فإن مفهوم الثقافة تعني: "مجموع الفروض الإيديولوجية، والسلوك المكتسب والسمات العقلية والاجتماعية والمادية المتناقلة والتي تميز جماعة اجتماعية بشرية .
أما في قاموس علم الأنثروبولوجيا فنجد كلمة culture تقابلها حضارة "وهي كل ما يرث المجتمع من أجياله السابقة، باستثناء الصفات الحياتية الطبيعية، من نظم، وقيم، ومعتقدات اجتماعية وفكرية ودينية، وأنماط سلوكية، ومهارات فنية، يسيطر بها على بيئته، ويكيف نفسه لها، ويستطيع بواسطتها إشباع احتياجاته الحياتية والاجتماعية، وغيرها من جيل إلى جيل يليه .
وأما في معجم علم الاجتماع المعاصر، فإننا نجد كل من علم الاجتماع البريطاني والأمريكي يشير إلى أن مفهوم الثقافة يحيل بالدرجة الأولى على مجموعة من المعتقدات والأعراف أو طريقة عيش الناس لجماعات معينة .
ثانيا: مفهوم الحضرية
تشير كلمة الحضرية إلى طريقة الحياة المميزة لأهل المدن الذين يتبعون عادة أسلوبا أو نمطا معينا في حياتهم، وهو أمر يتعلق بالسلوك اليومي، فالناس يتكيفون نفسياً مع متطلبات المدينة، وأحد مظاهر هذا التكيف هو الذي جعل سلوكهم مطابقا لسلوك رفاقهم من الحضريين .
وفي قاموس علم الاجتماع للدكتور محمد عاطف غيث نجد كلمة الحضرية تعني: "نماذج الثقافة والتفاعل الاجتماعي التي تنجم عن تركز عدد كبير من السكان في مناطق محدودة نسبيا. وتعكس الحضرية تنظيم المجتمع في حدود تقسيم العمل المعقد، ومستويات التكنولوجيا المتفوقة، والتنقل الاجتماعي السريع، والاعتماد المتبادل بين أعضائه في أداء الوظائف الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية غير الشخصية .
والحضرية عند لويس ويرث هي ليست مجرد حجم السكان أو كثافتهم أو الأنشطة المادية والتكنولوجية التي يتطبع بها المكان وذلك لأن الآثار التي تخلقها المدن على الحياة الاجتماعية للإنسان أكبر وأشد من الدرجة التي يمكن أن يخلقها حجم السكان .
المحور الثاني: أي خصائص للثقافة الحضرية؟
يمكن القول أن الدراسات التي قام بها علماء الاجتماع من أمثال لويس ويرث، رونالد وران، روبرت ردفيلد وغيرهم، قد اشتركوا على أن من خصائص الثقافة الحضرية هي كالآتي:
أولا: طبيعة العلاقات الاجتماعية
مما لا شك فيه، أن أكثر ما يميز أي مجتمع حضري، هو بروز خاصية الفردانية التي تؤدي إلى خلق نوع من المرونة بين مختلف أقسام الحياة الاجتماعية، الأمر الذي يجعل صعود السلم الاجتماعي أو هبوطه أمر موكول للفرد نفسه فقط إن قام بشيء أو أخطأ فلا يشاركه في هذا سواه .
فالوسط الحضري يغلب عليه طابع المجهولية بتعبير جورج زيمل، لأن أفراد المجتمع المديني لا يعرفون بعضهم البعض حتى وإن كانوا في علاقة الجيرة، وسيادة علاقات اجتماعية مبنية على أسس سطحية، ومنفعية بالدرجة الأولى.
ثم خاصية أخرى أصبحت تميز المجتمع الحضري يمكن إضافتها، وهي ما أسميها ب "ثقافة الاصطياد"، وهو سلوك يصدر عن الفرد باستخدامه للجسد بغية تحقيق غاية أو هدف معين سواء أكانت بطريقة مشروعة أو غير مشروعة في مختلف مناحي الحياة اليومية لا على مستوى الرأسمال الرمزي أو المادي.
يضاف أيضا أن المجتمع الحضري يعرف المنافسة بين أفراده حول مصالح معينة، نتيجة للفروقات التي بينهم. كما أن وعي الفرد باختلافه عن الآخرين وتميزهم عنه يمكنه من أن يرى نفسه بموضوعية أكبر، وأن يفصل ذاته عن الجماعات التي تحيط به .
ثانيا: طبيعة النشاط الاقتصادي
من المعلوم عند كل المختصين في علم الاجتماع، أن مجال الصناعة يحتل المرتبة الأولى في المجتمع الحضري من حيث مزاولته للنشاط الاقتصادي خصوصا في المدن الكبرى، فقيمة العمل الصناعي هي القيمة العليا عندهم، ونجد أيضا أن هناك عدة تخصصات في مجال الصناعة، وتختلف من طبقة معينة إلى طبقة أخرى، والعمل الذي يقوم داخل التجمع الصناعي بالوسط الحضري يكون غالبا عملا متسلسلا أو ما يطلق عليه بعملية "تايلور" taylorisme، وكذلك يتميز المجتمع الحضري بالنشاط التجاري المتمثل في المراكز والمحلات التجارية الكبرى التي تعرفها المدينة.
ولا يجب أن نغفل على أمر مهم، وهو انتشار وارتفاع مستوى البطالة بالمجتمع الحضري خصوصا عند فئة الشباب.
ثالثا: البنية العمرانية والديمغرافية
عندما نتأمل جيدا في البنية العمرانية للمجتمع الحضري، فإن أول ما سنلاحظه هو ارتفاع واتساع المباني السكنية، و توفرها على مراكز وخدمات مثل الصحة والتعليم وغيرها من النظم الإدارية، وأيضا على وسائل النقل والمواصلات والاتصال. ثم انتشار بضواحي المدن ما يطلق عليه بالأحياء المتخلفة أو الهامشية.
أما فيما يخص الكثافة السكانية، فلا شك أن المجتمع الحضري يعرف تجمع سكاني مهم ومرتفع بكبر حجمه وتعقيده إن صح التعبير، نتيجة للهجرة المتوافدة إليه بنوعيها الداخلية والخارجية تبعا لعوامل الطرد والجذب، وانخفاض في معدل الوفيات لصالح ارتفاع معدل الولادات، يمكن إرجاعها لسبب واحد وهو التغطية الصحية المتطورة التي توجد بالمدن، وعلى هذا الأساس ترتفع معدلات الكثافة السكانية في مجتمع المدينة لتصبح سمة مميزة على عكس المجتمع الذي يتحدد بوجه عام بعلاقة عكسية مع الكثافة .
خلاصة
يخلص بنا القول، أن الثقافة الحضرية مرتبطة بكل ما هو فكري ومادي، وأن الثقافة هي التي تؤسس الحضارة، وهذا الأخير هو الجزء المادي الملموس من الثقافة، فالثقافة مرتبطة بالفكر، وأما الحضارة فهي مرتبطة بالعمران والسلوك الاجتماعي.
المراجع:
1. ايكه هولتكرانس، قاموس مصطلحات الإثنولوجية والفلكلور، الهيئة العامة لقصور الثقافة، الطبعة الثانية.
2. شاكر مصطفى سليم، قاموس الأنثروبولوجيا: إنكليزي عربي، الطبعة الأولى 1981.
3. معن خليل العمر، معجم علم الاجتماع المعاصر، دار الشروق للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2000.
4. محمد عاطف غيث، قاموس علم الاجتماع، دار المعرفة الجامعية، 2005.
5. لوجلي صالح الزوي،علم الاجتماع الحضري، ط1، منشورات جامعة قار يونس، 2002.
6. عبد الرؤوف الضبع، علم الاجتماع الحضري: قضايا وإشكاليات، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، 2003.
7. عرب دعكور، تاريخ المجتمع الريفي والمدني، الطبعة الثانية، 2004.
He do it
ردحذف