عزيز مشواط
مآزق الاشكال وقلق المفهوم
شهد مفهوم الهوية خلال ستينات القرن الماضي تضخما شديدا بفعل الكم الهائل من الدراسات العلمية التي اتخذت منه مفهوما مركزيا فصار خطاب موضة مما جعل المؤرخ الفرد كروسر Alfred Grosser يقول "القليل من المفاهيم هي التي حظيت بالتضخم الذي عرفه مفهوم الهوية " حيث أصبحت الهوية "شعارا طوطميا و أصبح بديهيا أن يحل كل الإشكاليات المطروحة" .
لقد اقتحم المفهوم جميع المجالات و صار موضة علمية بمواصفات الحل السحر
ي لجميع الإشكاليات حيث تدافعت العلوم الإنسانية من انثروبولوجيا و سوسيولوجيا و سيكولوجيا و علوم سياسية لاستلهام المفهوم رغبة في الظفر بنصيب من النجاح الذي حققه في مقاربة آليات التغيير و ميكانيزمات حل المشاكل. فما الذي أعطى للمفهوم هاته الهالة؟
تقدم الاستراتيجية السياسية إضاءة هامة في مدى فعالية "الهوية" فبنظرة بسيطة على امتداد مناطق الصراع العالمي يمكن إن نستشف حضور النزعة الهوياتية كمعطى فاعل، وسواء تعلق الامر بمناطق البلقان او القوقازاو بصراعات افريقيا او البحيرات الكبرى او بالجزائر فان الملاحظة الاساسية التي يوردها علماء السياسة تنصب في اتجاه "تمركز الصراعات حول الهوية" حيث ان"القوة المدمرة للمفهوم مستمدة من الاعتقاد بتماثل الهوية الثقافية و نظيرتها السياسية" ان هذا الاعتقاد لا يلبث ان يتحول الى وهم بل الى عامل انفجار الصراعات الدامية.
بيد ان المفارقة تنبع من تلك الثنائية التي تحكم العالم منذ منتصف القرن الماضي و المستمرة مع بدايات الالفية الثالثة:انها مفارقة الرغبة في التوحيد و التنميط الى جانب انبثاق مطالب الهوية الاثنية و القومية المنادية بالخصوصية"ان العولمة الاقتصادية و الاعلامية و تدويل القانون و تنميط العالم اقتصاديا لم يؤدي الى إقصاء التوجهات الكبرى للهويةو المتمظهرة في مختلف اشكال التعصب القومي و الوطني والاثني" لكن ما الذي يعطي للابعاد الهوياتية في الحياة الانسانية هاته القوة؟و كيف تقارب مختلف التخصصات المفهوم؟
1-الهوية مفهوم تقاطع التخصصات
يحدد معجم روبيرالهوية "باعتبارها الميزة الثابتة في الذات "ويختزن هذا التحديد معنيين يعمل على توضيحهما معجم المفاهيم الفلسفية على الشكل التالي "إنها ميزة ماهو متماثل,سواء تعلق الأمر بعلاقة الاستمرارية التي يقيمها فرد ما مع ذاته او من جهة العلاقات التي يقيمها مع الوقائع على اختلاف أشكالها ".
ومن ثمة تصبح الهوية الثقافية هي "الفعل الذي يجعل من واقع ما مساويا أو شبيها بواقع آخر من خلال الاشتراك في الجوهر "ويستعمل المفهوم سواء في الانتروبولوجيا أو في علم النفس حيث يحدده عالم النفس الاجتماعي بيير تاب بكونه"الاحساس بالهوية هو الامر الذي يجعل شخصا ما يشعر بكونه هو,ويبقى كذلك في الزمن "وبمعنى أكثر اتساعا يضيف"انه نسق من الاحاسيس و التمثلات التي يستطيع بواسطتها فرد ما الاحساس بتميزه ,وبهذا المعنى فهويتي هي ما يجعلني مماثلا لنفسي و مختلفا عن الاخرين"
ويحضر مفهوم الهوية انتروبولوجيا كعلامة غير منفصلة عن مسلسل الفردنة أي كشكل من اشكال التمايز بين الطبقات نفسها يقول نيكول ساندزنيكر *:"لا تنفصل الهوية عن الفردنة,أي عن مسلسل الفردنة فمن اجل إعطاء هوية لشخص ما أو لمجموعة من الأفراد ،يبدو لزاما التمييز بين ما ليسوا هم ،و بالمقابل ينبغي فهم الفرد في خصوصيته كما يجب اخذ هويته التاريخية بعين الاعتبار " .
تتقاطع إذن أبعاد المفهوم مابين مختلف التخصصات ،إنها مفهوم يمكن من تحديد الأنشطة التي يبني بواسطتها الفرد أناه و تمتد لتشمل مختلف المؤثرات الزمانية والمكانية و مختلف استراتيجيات بناء الذات من خلال العلاقات الاجتماعية ذاتها .
يطرح إذن البعد المزدوج للهوية إشكالا أساسيا ما بين تلك الرغبة في التميز كفرد و كأنا مستقلة ومابين امتداد الهوية في نسق مبنين من الرموز و القيم الممتدة في قيم الجماعة و أدواها و من ثمة تصبح الهوية في بعدها الفردي غير قادرة على تقديم رؤى واضحة و بالتالي يصبح الانتقال إلى الهوية الجماعية معبرا رئيسيا حاولت السوسيولوجيا القيام به بيد أنها و بفعل التعقيد الذي تعاني منه سرعان ما أفسحت المجال لعلم النفس الاجتماعي كتخصص هوياتي با متياز.. مفهوم (الهوية) مثل معظم مفاهيم العلوم الانسانية، هلامي وواسع يحتمل الكثير من المعاني والتفسيرات، وكثيرا ما يتم خلطه مع (الثقافة)، التي هي بالحقيقة تشكل جزءا من مفهوم الهوية وليس كله.
2-الهوية ومآزق الذاتي و الجماعي
يطرح البعد المزدوج للهوية مأزقا حقيقيا بفعل ازدواجيتها مابين المكون الفردي و الجماعي الفردي و الجماعي،فالنظر الى الهوية من خلال ابعادها الفردية يقود إلى القول بوجود كائن مطلق غير متغير في الزمان مع ما يعنيه هذا الموقف من ملابسات ,أما في حالة النظر إليها من جهة دلالتها الاجتماعية فان الإشكال يصبح من درجة اعقد "فمن المستحيل أن يكون أفرادمجموعة ما متماثلين كلية و يتوفرون على نفس الهوية " يقول بيير تابPierre . Tap وفي نفس السياق يعترف لابلاتين laplatine بحقيقة ضبابية مفهوم الهوية حيث يقول :"إنها من أكثر المفاهيم الفلسفية فقرا على المستوى الابستيمولوجي ،ولكنه بالمقابل يتمتع بفعالية إيديولوجية كبرى "و يذكر كروسر بالتعريف الذي منحه فولتير للهوية في معجمه الفلسفي " يدل مصطلح الهوية على الشيء ذاته حيث يمكن استبداله ب mémete ومن ثمة فان الذاكرة هي التي تحدد الهوية "غير ان استمرارالثبات تقابله الحكمة الهيراقليطية "إننا لا ننزل في النهر مرتين "حيث ان التغيير و عدم الثبات يقف في وجه ثبات الهوية و اطلاقيتها. وترتبط بماوصفه الان تورين في مداخلته بالوجه المزدوج للهوية ,فهي من جهة ذات بعد فردي ومن جهة اخرى تعبير عن انتماء لخصائص جماعية من هذا المنطلق يقف السوسيولوجي Claude Dubardعلى مفارقة أساسية تواجه ما يسمى بالهويات الجمعية ,انه البعد المميز و الاحادي و البعد المشترك "و كيفية الفصل بينهما بمعنى اخر"ان جماعة ما ,لا تعترف بالوجود المتميز لافرادها الا من جهة تماثلهم وهذا ما يفترض عملية مزدوجة تتجه من جهة إلى تقليص التمايزات الداخلية للجماعة ومن جهة أخرى تعميق الخصائص المميزة لها عن الآخرين.
إن الاندفاعات نحو الهوية كامنة في كل الافراد و الشعوب ,انها متجذرة بدرجات تكاد تكون متساوية بين الشعوب لانها وببساطة و بالرغم من طابع التعصب الذي يمكن ان تؤدي اليه يبقى, حسب عالم الاجتماع Manuel Castells ,ضرورة بفعل وظائفها الحيوية و يركز على بعدها الايجابي "اعني بالهوية مسلسل انبناء معنى فعل معين انطلاقا من معطى ثقافي او من مجموعة منسجمة من المعطيات التي تحظى بالاولوية بالمقارنةمع باقي المصادر" و بهذا المعنى فان توترات الهوية لا يمكنها ان تؤذي الفرد او الجماعة .
غير ان المجتمعات الانسانية سواء المسماة متقدمة او متخلفة تشهد في النصف الثاني من القرن العشرين و مطلع الالفية الثالثة ازمات متعددة الاشكال مرتبطة بتمثلها لذاتها و كما يلا حظ ذلك Dubard فسواء تعلق الامر بالاسرة او العمل او الدين او السياسة فان انماط الهوية التقليدية ماضية الى الاندثار"
لقد أكد بيير تاب في المقدمة التي صدر بها للمداخلات التي شهدها الملتقي الدولي حول الهوية على الابعاد المتناقضةلها ومن ثمة فان تعدد التخصصات وتكاملها لايمكن الا ان يكون الحل الامثل لتفادي القلق و المآزق التي يخلقها المفهوم يقول في هذا الصدد:" إن محاولة دراسة الصيرورت التي تعمد إليها المجموعات أثناء بناء هويتها يقتضي افتراضا أن أعضاء الجماعة يحاولون التماثل فيما بينهم مع ما يقتضي ذلك من إدراك البعد الدينامي للهوية باعتبارها ذات محددات داخلية وخارجية، ونوعا من الانزياح يتجاوز البعد الأحادي التخصص إلى مجالات معرفية متعدد الأبعاد ،وهوماسعى المتلقي الدولي المنعقد تحت اسم " إنتاج وإثبات الهوية" إلى تحقيقه."
0 التعليقات:
إرسال تعليق