يعتبر كتاب "مفهوم الحرية" للباحث المغربي عبد الله العروي، الصادر في طبعته الرابعة عام 2008 عن المركز الثقافي العربي، محاولة أصيلة و نوعية لتقديم فهم و تحليل جدي لهذا المفهوم.
يكتشف القارئ المتروي لهذا المؤلف الهام طريقة عمل خاصة بالعروي، تتمثل في بناء موضوعه عن طريق ورشات عمل مستقلة فيما بينها، يقودها خيط ناظم، لتصب في استنتاجات بعينها. نسميها ورشات عمل، لأنها مبنية بدورها بطريقة حلزونية مفتوحة، قد تدرس كل ورشة على حدة، أو تشمل الدراسة كل الورشات بفضل هذا النوع المضمر للقناطر بينها، لتشكل في آخر المطاف بناء متكاملا لموضوع الدراسة. و هي ورشات كذلك، لأن موضوعها يبقى مفتوحا و غير مكتمل الأطراف، لأن الإلمام بموضوع كل ورشة على حدة قد يتطلب مجلدات قائمة بذاتها. لهذا، يمكن اعتبار ورشات الكتاب دعوة ضمنية و تحفيزا للمهتمين و الدارسين قصد التعمق في دراستها، كما أنها توحي بالكفاءة البيداغوجية لمدرس أكاديمي قد يقنع تلامذته لتخصيص أبحاثهم و دراساتهم الأكاديمية لهذه الورشة أو تلك، لأنها تعتبر مقلعا أوليا للأفكار، قد يفضي إلى عمق إشكايات مواضيع أوراش العمل هذه.
يخصص العروي ورشته الأولى إلى تتبع كلمة "حرية" مفهوما و تمثلا و ممارسة في المجتمع الإسلامي التقليدي، ليؤكد من بين ما يؤكده على اختلاف فهم كلمة حرية في هذا المجتمع و المجتمعات الأوروبية الليبرالية. ثم يحدد المعاني الأربعة المتميزة للكلمة في القاموس العربي: المعنى الخلقي أو قد نقول الأخلاقي إذا طبق على البشر، و هو "موروث" عن الجاهلية و المعنى القانوني و المعنى الإجتماعي و المعنى الصوفي. إذن، يدور العروي في محاولة تحديده لمفهوم الحرية – و كما يؤكد هو نفسه على ذاك – في حلبة الفقه و الأخلاق. يميز الفقه في كلمة حرية بين من ولد حرا و من ولد عبدا من الناس، ويبني على هذا الأساس سلما اجتماعيا يقوده فرد حر عاقل، أو باستطاعته تحقيق العقل في حياته بتطبيق مبدأ العدل. أما في ميدان الأخلاق، فإن الأمر يتعلق من جهة بعلاقة العقل بالنفس أو الروح بالطبيعة و من جهة أخرى بعلاقة الإرادة الفردية بالمشيئة الإلهية.
يحاول العروي في نقطة لاحقة البحث عن رموز الحرية في التنظيم السياسي و الإجتماعي للبداوة و أهل الحضر، مستخلصا كون الحرية موجودة كرمز و كفكرة مجردة في ذهن البدوي، في الوقت الذي ارتكنت فيه المدن إلى التصوف، أي ما يمكن تسميته خلق عوالم وجدانية روحية يسبح فيها المعني بالأمر في حرية مطلقة، كتعويض عن الحرية المفقودة في الواقع و كتعوذة قد يسحر بها وسطه الإجتماعي الثقافي.
كما يستنتج العروي نفسه ذلك، فإن الأمر لا يتعلق بواقع الحرية في المجتمع الإسلامي، بل فقط بحلم الحرية. و هذا الحلم بالضبط هو الذي قد يكون المحرك الرئيسي لتبلور تمثل الحرية في المجتمعات المسلمة و الإستعداد لاستقبالها و ممارستها، بطريقة من الطرق.
أما رحى الورشة الثانية فإنها تدور حول الدعوة إلى الحرية و تركز على تحولات المجتمعات العربية في غضون القرنين الثامن عشر و التاسع عشر و بالخصوص توسيع صلاحيات الدولة جغرافيا لتشمل القرى و الحواضر و ليعرف معاش الحرية زعزعة حقيقية. و بهذا نفيت أو تقلصت إلى أقصى حد الحقوق المكتسبة عن طريق الإكثار من تشريعات، تحد من هوامش الحرية. و لعل هذا الحد هو الذي كان سببا لدخول مفهوم الحرية مجال الإدراك و الخطابة و الشعارات و بذلك أصبحت مطلبا سياسيا. لكن رفع الشعار و المطالبة بتحقيق الحرية لم يكن مرفوقا بتأمل و تنظير المفهوم، و لهذا السبب لم يهتم المرء أو لم يفطن بأي منبع سيهتم للمطالبة بالحرية، فاختلطت المصادر و تنوعت المدارس و عجن التراثي بالحداثي و الشرقي بالغربي، لأن هم تلك الحركات كان هو الإصلاح و ليس العمق الفكري أو حتى الأيديولوجي لمفهوم الحرية. و لربما لم يكن بالإمكان ألا تلتقي وجها لوجه مع المنظومة الليبرالية الغربية، التي عزف على أوتارها و غنى ألحانها الكثير من المصلحين العرب.
خصص العروي ورشته الثالثة إلى الليبرالية، التي تعتبر الحرية في عرفه المبدأ و المنتهى، السبب و الهدف. حدث تغير جذري في فهم الليبرالية للفرد، الذي كان عاقلا في تصورات فلسفة الأنوار (أو كان عليه أن يكون كذلك) ليستحق الحرية، ليعوض بالفرد الخلاق المعارض في المرحلة الرابعة و الأخيرة لتطور الليبرالية حسب العروي. و هذه المرحلة بالذات هي التي وجد "المثقف" العربي لذاك الزمان نفسه في خضمها: " ... إن العرب تعرفوا على ليبرالية ورثت روح الفلسفة الغربية الحديثة و روح الثورة الفرنسية و روح الردة على الثورة و روح النخبوية المعادية للديمقراطية و الإشتراكية ..." (ص 53). إذن تلقى أسلاف النهضة العربية بضاعة جاهزة لم يتسائلوا عن مصدرها و لا عن طريقة "صناعتها" بل اكتفوا باستعمالها دون التوغل في فهم أسسها و معاييرها و ظروف تطورها و تشاؤمها و حدودها.
توصل الورشة الرابعة العروي إلى صلب الموضوع: "نظرية الحرية"، مؤكدا بأن الليبرالية الغربية لن تنظر للحرية، بل سجلت وجودها تاريخيا. و يعتبر العروي التركة الهيجيلية المشخصة في شيلينغ أول من تعرض للحرية بعمق، واضعا إياها في عالم المطلق، أي في نطاق مفهوم الله. ثم يستعرض الخطوط العريضة لمفهوم الحرية عند هيجل و الماركسية و الوجودية، قبل أن يعرج على أثار الماركسية و الوجودية في العالم العربي، الذي اكتشفها بعد التحرر السياسي للكثير من الأقطار العربية. لكنه لا يقر و لا يعترف لأتباع هاتين المدرستين بأي دور في تطوير مفهوم الحرية عند العرب. أكثر من هذا، فإنه يركز على أن المهتمين بالدين في العالم العربي الإسلامي هم الذين عكفوا على محاولة تأصيل مفهوم الحرية في الإسلام.، ضاربا المثل بعلال الفاسي و حسن حنفي، اللذان حاولا تأصيل المفهوم "لاهوتيا"، كما حاول ذلك هيجل و أتباعه من بعده، راجعين بالخصوص إلى التصوف و رافضين لليبرالية الغربية. لكنه يؤكد من جديد، بأن كل ذلك لم يكن وصولا إلى نظرية قائمة بذاتها في الحرية العربية، بقدر ما يعتبر مساهمة في هذه النظرية على المستوى العالمي، على الرغم من أن" "الحرية في مفهومها تناقض و جدل: توجد حيثما غابت و تغيب حيثما وجدت" (ص 112). و يختم العروي ورشته هذه "بشعار" محير عندما يقول: "نظرية الحرية إذن في غاية الأهمية و في نفس الوقت في غاية التفاهة" (ص 113).
أما الورشة الأخيرة: "اجتماعيات الحرية" فإنها تعالج حضور أو غياب هذه الأخيرة في العلوم الإنسانية و بالخصوص في الإقتصاد و السوسيولوجيا و السياسة. لكنه يعرج قبل هذا، و لو في عجالة، على قضية الحرية و الحتمية العلمية في العلوم الوضعية، ليستشف بأن هدف العلم الحديث الريئسي، محاولة تحرير الإنسان من جبروت الطبيعة، هو حظ و خطر على الحرية. و يختم هذا الفصل بنوع من تشخيص حالة الحرية في العالم العربي، مؤكذا على ضعف حضورها في الواقع الإجتماعي-السياسي، لكنها قوية من حيث حضورها كمطلب و مبتغى. و قد تلخص جملته التالية تشخيصه العام للحرية عند عرب اليوم: "وجودها معنى، حيث تنفى فعلا، و تجذرها فعلا، حيث تختفي معنى".
كان هذا تقديم جد مركز لكتاب: "مفهوم الحرية" للعروي، لا يغني البتة من الرجوع إلى تفاصيله قد استيعابه. الملاحظ هو أن العروي قام بوصف حال المفهوم و عرضه، ببعض الملاحظات النقدية مرة مرة، و كأن لسان حاله يقول بأن مفهوم الحرية متجدر في تاريخ الإنسانية إن على المستوى الفردي أو الجماعي. لم يقدم أي تنظير متكامل للمفهوم، قد لم يكن هذا هدفه الرئيسي، بل اكتفى بإعطاء "فلاشات" عامة له، لربما تنير الطريق لباحثين آخرين. و هو بهذا يقدم نوعا من الحصيلة لما وصل إليه المفهوم، و ليس تأملا في طبيعته الثابتة/المتغيرة، تاركا القارئ وجها لوجه مع هذا التراكم التاريخي الضخم لما أنتج في الموضوع على كل الأصعدة تقريبا.
قد يكون العروي "زهد" في عدم تقديم أي تنظير للحرية، لأنه يعرف حق المعرفة بأن المفهوم كحصان بري متوحش، تجتمع فيه القوة و الجمال و الإستفزاز و المشاكسة، يود الكل "امتلاكه" و تدجينه، لكنه كائن أسطوري، ما إن يلق القبض عليه في أية حضيرة من حضائر الجنس البشري (سياسة، اقتصاد، فلسفة، سيكولوجيا، سوسيولوجيا، علم وضعي إلخ)، حتى تنقلب خصوصياته الأصلية إلى ضد لها، بل قد تصبح خطرا على المروض و محيطه.
الواقع أن مفهوم الحرية ليس مفهوما بالمعنى الدقيق للكلمة، إذا كان يعني ذلك التحديد المضبوط، بقدر ما هو سيرورة تاريخية مفتوحة إلى الأبد على المستقبل، لا تتحقق إلا جزئيا و باستمرار في حيوية منقطعة النظير. و بهذا فإنها ليست لا مطلقة لاهوتيا و لا نسبية وضعانيا، بل إنها مكونا كينون-تاريخي بالمعنى الهيديجيري، قابلة إلى التطوير إلى ما لا نهاية في كل العصور و الأزمنة، على الرغم من أنها غير خاضعة للتقسيم الزمني الكرونولوجي المتعارف عليه، بل لها منطقها الزمني الخاص، حيث يختلط في بعض المرات الماضي و الحاضر و المستقبل، لترفع بذلك الزمن و تلغيه، بقيامها بنوع من تفكيك الماضي، و مشاكسة الحاضر و استفزاز المستقبل، لأنه ليس لها غاية في حد ذاتها، بقدر ما هي غاية بالنسبة للعنصر البشري. و هذا بالضبط هو ما لم تفهمه التجربة الليبرالية، و بالخصوص في مرحلتها الرابعة، و كانت النتيجة هي أنها في تفكيكها للحرية و محاولة إقحامها في ميادين مختلفة، زهقت من بين يديها كالزئبق، لأنها شرسة و عنيدة لا تقبل التقسيم، بل تفرض قبولها كاملة و غير مجزئة في وحدة متكاملة و على جميع الأصعدة. و لهذا السبب فإن البشر لم يعوا بعد كنه الحرية، بمحاولة ضبطها بأدواة غريبة عنها ورثوها عن العقل العملي النفعي، لأنها غير قابلة للتكميم و التصنيف و تحديد مؤشرات لنجاحها أو انتشارها، بل تفرض أن تعاش و تطبق كأساس أنطولوجي للإنسان، و ليس ككرامة (بمعنى هدية) أتية من خارج الإنسان. و بهذا فإنها قابعة في الطبيعة الإنسانية، لا يمكن فصلها عنها بأية طريقة من الطرق، لأنها هي التي تأسس كرامته الأنطو- وجودية، سواء في تنظيمه المجتمعي أو في سلوكه الفردي. الحرية بهذا المعنى مرتبطة بمقومين إنسانيين آخرين، يدخلان في تكوينها المورفولوجي الحميم: المسؤولية و الحب. بدون تحمل المسؤولية الجماعية و الشخصية و بدون حب الجماعة و الذات، لن يكن هناك أي مدخل للحرية. تنزل الحرية من أبراجها العالية للواقع الفعلي، عندما يتوفر حد أدنى لهذين الشرطين. تعني المسؤولية فيما تعنيه الحرص على عدم المس بحرية الآخر، طالما أن هذا الآخر مسؤول، ليس فقط عن حريته الذاتية، بل عن حرية الجماعة. و يعني الحب في عمومه حب الخير للذات و للجماعة، و من تم للإنسانية جمعاء، لأن هناك علاقة جديلية بين حب الذات و حب الجماعة. و الحب كالحرية، لا يعطى دفعة واحدة، بل يتحقق و يتطور إلى ما لا نهاية سواء بين الأفراد أو بين الجماعات. أخيرا، و كما زعم إيريك فروم، فإن الخوف أو الهروب من الحرية، سواء فرادا أو جماعات، هو في الأساس خوف من الذات و من الجماعة، لأن تحمل مسؤولية الحرية دون حب في الحرية و في المسؤولية، يقود حتما إلى الخوف من الإثنين و في هذا نكوص في تطور العنصر البشري و إخفاق في وعي عقبات هذا النكوص و تجاوزه، لاستكمال التطور.
0 التعليقات:
إرسال تعليق