الاثنين، 16 يونيو 2014

مفاهيم سوسيولوجية حديثة 4 – «الاشتمالية» Panopticism

حسني إبراهيم عبد العظيم   

4 – «الاشتمالية»(*) Panopticism

يعد «ميشيل فوكو» بحق المنظر الأهم للجسد في القرن العشرين، حيث كشف «فوكو» من خلال رؤاه ما بعد البنيوية الحضور الشامل للسلطة داخل الصياغات الخطابية Discursive formations المتعلقة بالجسد، إن أهمية الجسد لدى فوكو تصل لدرجة أنه يصف أعماله الفكرية بأنها تشكل «تاريخ أجساد» a History of bodies وترصد الطريقة التي يتم من خلالها استثمار الأجساد مادياً وحيوياً. (Shilling 2001: 445)

لقد كان «فوكو» منشغلاً بفهم كيفية دخول الجسد إلى الخطاب السياسي كتمثيل للسلطة، وكيف تُمارس السلطة على الجسد، في المؤسسات المختلفة كالمدرسة والسجن والمصنع والمستشفى، بحيث يتحول الجسد إلى كائن منضبط Regulated (Turner 2006: 42)


يشير «فوكو» لواحد من أهم النظم الفاعلة في ترويض الجسد وتدجينه وإخضاعه، وهو ما يسميه السلطة التأديبية، ويقصد بها السجن والعقوبات المختلفة كالتعذيب والإعدام، حيث يرى أن السلطة التأديبية تهدف إلى خلق جسد طيع يمكن إخضاعه واستخدامه وتحويله وتحسينه. (دريفوس ورابينوف: 138)

ينبغي الإشارة –بداءة- إلى أن السجون ليست سوى واحد من عدة أمثلة على تكنولوجيا التأديب والمراقبة والعقاب، فوفقاً لفوكو، فإن السجون نفسها، وكذلك مختلف الإصلاحات التي تحاول إقامة نوع مثالي من العقاب، ليست سوى التعبير الواضح عن ممارسات أعم تهدف إلى تأديب الأفراد والجماعات. يقول في كتابه "المراقبة والعقاب" التأديب هو تقنية لا مؤسسة، وهو يشتغل بشكل كثيف وبصورة شبه كلية من قبل المؤسسات (كالمعتقلات والجيش) أو مستخدماً لأغراض محددة في أماكن مؤسسية أخرى (المدرسة المستشفى) يمكن أن تستخدمه سلطات سابقة الوجود (مراقبة الأمراض) أو بعض عناصر الجهاز القضائي للدولة (الشرطة). (دريفوس رابينوف: 138)

يركز «فوكو» في تحليله للسلطة التأديبية على «المشتمل» Panopticon أو بيت التفتيش Inspection house الذي قدمه الفيلسوف والمصلح الاجتماعي الانجليزي «جيرمي بنتام» Jeremy Bentham كتصميم لعدة مؤسسات بما فيها الملاجئ. (Gatrell 2002: 22) فما هو المشتمل ؟

المشتمل هو بناء يتكون من فناء واسع في وسطه برج وعلى أطرافه بناء مقسم إلى طوابق وغرف، لكل غرفة نافذتان، واحدة تسمح للنور أن يدخل الغرفة، والأخرى تواجه البرج الذي يحتوي على نوافذ واسعة تسمح بمراقبة الغرف، وهذه الغرف أشبه بمسارح صغيرة، بحيث يكون كل ممثل على حده، منفرداً تماماً، ومرئياً باستمرار – إن السجين ليس فقط ظاهراً لأعين المراقب، وإنما هو غير ظاهر لمن سواه، منقطع عن كل اتصال بالغرف المجاورة، إنه مادة إعلامية، وليس أبداً عنصراً فاعلاً في الاتصال. (دريفوس رابينوف: 169)

إن المشتمل قائم على مبدأ جعل كل النزلاء عرضة للتفتيش المستمر، أو على الأقل إبهام هؤلاء النزلاء بأنهم خاضعون لمراقبة دائمة، إن المساحات الداخلية الضيقة يفترض أنها تعمل على تحقيق النظام والأمن، وتقضي على الفوضى والشغب داخل المشتمل، ولكنها في الواقع تعمل على قمع الجسد، إن المشتمل يمثل تعبيراً صارماً للمراقبة النظامية، وقد صك «فوكو» مصطلح «الاشتمالية» Panopticism للإشارة إلى كل أشكال الرقابة والتحكم في الجسد. (Gatrell 2002: 22)

لقد رأى «فوكو» في «المشتمل» دمجاً بين السلطة والمعرفة، وتكاملاً بين ضبط الجسد وضبط المكان من خلال تقنية المراقبة، ومكاناً لجعل أجساد الأفراد منتجة ومراقبة أيضاً، ويقرر «فوكو» أنه ليس من الغريب أن بتشابه السجن مع المصنع والمدرسة والثكنة العسكرية Barrack والمستشفى، باعتبار أن كل هذه المؤسسات تعد –بمعنى ما- سجوناً. (Powell & Cook 2001: 6)

بالنسبة لفوكو ليس المشتمل طريقة فعالة وبارعة لمراقبة الأفراد فحسب، إنه أيضاً مختبر لتغييرهم، فمن السهل إجراء تجارب في كل غرفة، ثم ملاحظة وتصنيف النتائج المحصول عليها من البرج، ففي المصانع والمدارس والمستشفيات يكون لدى المراقب متسع من الوقت ليلاحظ الشبكة المرمزة الماثلة أمام ناظريه، والمشتمل بذلك التصميم يجمع بين السلطة والمعرفة ومراقبة الجسد داخل التكنولوجيا التأديبية، إنه نظام يسمح «بموضعة الجسد» في المكان، وبتصنيف الأفراد بالنسبة لبعضهم بعضاً، وبتنظيم التسلسل، وبتهيئة النواة المركزية للسلطة وشبكاتها على نحو فعال، المشتمل هو تكنولوجيا متكيفة ومحايدة لتقسيم الجماعات، ويمكن تطبيق هذه التكنولوجيا حيثما يجب إخضاع الأفراد والجماعات لشبكة تجعلهم منتجين ومراقبين، إن المشتمل يمارس سيطرته على الأجساد جزئياً بفضل الطريقة التي ينظم بها المكان. (دريفوس ورابينوف: 170)

لقد اعتبر «فوكو» أن المشتمل حدثاً مهماً في تاريخ الفكر، حيث استطاع أن يقدم هندسة جديدة تمكن من بلوغ أهداف إصلاحية بأقل تكلفة ممكنة، تم تبنيها في العالم أجمع، أصبح المشتمل معبراً عن عصر التنوير، حيث نشأ لأول مرة فضاء رسمي منظم للتربية والتقويم والتهذيب والحبس والعزل، حيث تم –ولأول مرة أيضاً- الاستغناء عن الأقبية والسراديب القاتمة، والصلبان والمحارق، (التي شاعت في العصور الوسطى) لأن العصر كان عصر النهوض بفكر التنوير، واقتصاد الرأسمالية التي تقتضي حسن التدبير لموارد الدولة واستغلالها بشفافية. (حسن المصدق 2007)

إذا فالمشتمل هو نموذج مثالي للسلطة التأديبية، وأهم خصائصه: قدرته على تنظيم نمو السلطة بطريقة فعالة، وعلى تيسير ممارسة السلطة بكلفة قليلة –يتمشى مع الاقتصاد الرأسمالي- وبعدد محدود من الأفراد، وعلى زيادة مرئية Visibility الخاضعين للمراقبة إلى الحد الأقصى، وعلى إشراك كل من هم على علاقة بجهاز السلطة في عمله، باختصار المشتملية هي المثل الممتاز على طقس دقيق للسلطة يحدد –من خلال طريقة اشتغاله- المكان الذي يمكن أن تعمل فيه تكنولوجيا سياسية للجسد، فالمشتمل يحدد بوضوح الحقوق والواجبات. (دريفوس ورابينوف: 172)

الخلاصة في هذا السياق أن «فوكو» قد أعاد قراءة دور هذه البناية، حيث يرى أن مبدأ المراقبة كان حاضراً في كل الأوقات، وفي كل الجهات، فأينما نولي وجوهنا في المجتمع الحديث نجد عيون الرقيب لا تنام، بحيث أصبحت الرقابة نظاماً اجتماعياً منظماً وعقلانياً، ينفق أدنى التكاليف، ويحصل على أكبر العائدات، أصبحت السلطة تتحكم في كل فضاءات الأفراد، حيث هي حاضرة في كل مكان، وهذا يستدعي تطوير تقنيات مراقبة خاصة بكل فضاء، الأمر الذي يعني أن المجتمع الرأسمالي الحديث هو في واقع الحال مجتمع مراقبة بامتياز. من خلال المشتمل أصبحت المراقبة الاجتماعية غير مرتبطة بحق الحاكم المطلق في نزع الحياة، بل مقترنة بمؤسسة تحافظ على الحياة المدنية، وفي هذا كناية عن أن الأفراد في هذا العصر خولوا للمؤسسات حق تدبير حياتهم، ومن ثم أصبحت عمليات التعذيب وقطع الرؤوس وصلب الأجساد في الساحات العامة عملية غير مقبولة ويشمئز منها عموم الناس والرأي العام، ومن ثم تم استبدال قطع الرؤوس والتمثيل بالأجساد وحرقها بآليات جديدة تتداخل فيها السياسة بالبيولوجيا، الأولى تتحكم في المجال العام والثانية تتحكم في الأجساد. (حسن المصدق 2007)
ــــــــــــــــ
(*) هذا المقال جزء من دراسة سابقة للباحث منشورة في المصدرالتالي
حسني إبراهيم عبد العظيم، الجسد والسلطة والمعرفة: دراسة تحليلية لإسهام ميشيل فوكو في تأسيس سوسيولوجيا الجسد، مجلة كلية الآداب ، جامعة بني سويف، ج.م.ع. العدد الثاني عشر- الجزء الثاني، إبريل 2008.

0 التعليقات:

إرسال تعليق