يشكل خروج الجمهور إلى الشارع لتحقيق غاية مباشرة هي "تغيير النظام" فعلا ثوريا بكل ما للكلمة من معنى، وذلك لكون الجمهور كان الغائب الأكبر والأساسي في الفعل السياسي العربي العام، وبوصفه المجتمع المدني الغائب والمغيب لما يناهز نصف قرن. حيث اقتصر الفعل الثوري قبل ذلك على انقلابات عسكرية صدرت من صفوف النخبة ذاتها التي تولت الحكم بعد رحيل الاستعمار، فلم يكن الجمهور حاضرا للمشاركة بل كان حضوره خلال مرحلة الاستقلال احتفاليا أكثر منه حضورا جادا وفاعلا، وهذا يعيدنا إلى التساؤل عن طبيعة التحرر الذي نالته الشعوب العربية خلال تلك المرحلة؟
لذلك كان الفعل الثوري الحاصل اليوم في البلاد العربية متمثلا في شكله غير المسبوق، فتغيير النظام له دلالة مباشرة واحدة، إلا أن إسقاط النظام بالمعنى الواسع هو سعي إلى تقويض الأسس التي يعيش عليها الجمهور العربي منذ نصف قرن إلى أسس جديدة، والخروج عن مسعى الإصلاح الذي يعني بقاء المتسيدين والطامحين بوصفهم النخبة دون تغيير يذكر على المستوى الفعلي المباشر للشعوب، وهي بلغة بورديو في علم الإجتماع محاولة الخروج إلى فضاء حقلي جديد تبنى فيه قواعد جديدة للفعل الاجتماعي.
لذلك فإن يأس الجمهور من الطامحين التقليديين في الحقل –أيا كانت صورتهم وعلاقتهم بالمتسيدين- كأدوات تغيير فعلية أدى إلى الخروج للتعبير ليس عن سخطهم عن النظام فحسب بل أيضا عن يأسهم من إمكان قيام الطامحين بعمل تغييري جاد، ومن ثم القيام بمحاولة إقحام طامحين جدد مباشرة إلى سدة الحكم، أي بتخطي عقبتين اثنيتن هما المتسيدون والطامحون التقليديون معا كمسعى مثالي في إعادة ترتيب الأوضاع في البلاد العربية.
إلا أن الملاحظ هو اندفاع الطامحين التقليديين إلى موقع المهيمنين حيث هيأة الثورة للطامحين التقليديين الصعود إلى موقع الحكم ذاته بل كفلت لهم ذلك عبر واسطة صندوق الانتخاب التي لا علاقة لها بالشرعية الثورية، الأمر الذي أدى إلى تهميش الطامحين الجدد الذين كانوا ملفوظين من الحقل أصلا قبل الثورة وتموقعهم في الحقل الجديد تحت لقب الطامحين، ومن ثم فإن المواجهة القادمة ستحصل بين الطامحين والمهيمنين الجديدين؛ وطبيعة الصراع ستتحدد بلا شك تبعا لنوع الخطاب الذي سيخرج به الطامحون الجدد.
إذ سيكون العنصر المحدث في المواجهة الحقلية القادمة على المجال السياسي العربي هو نوعية الخطاب السياسي ذاته، والعنصر الجديد في الواقع لا يكون إلى تمظهرا جديدا للمواجهة الكلاسيكية بين العلمانيين والإسلاميين، بوصفها الصيغة الأرقى التي بلغها الخطاب السياسي العربي كونها ترتقي على الصراع الطائفي والعرقي إلى تنافس مبني على تحيز اختياري حر، بمعنى أن النتيجة الجوهرية التي ستحصل عن الفعل الثوري الحاصل اليوم هو تجديد السؤال عن علاقة الدين بالسياسة، تجديد هو في واقع الأمر تجذير له يستأنس بالحاصل الفعلي على واقع الساحة السياسية العربية.
فلو جئنا إلى واقع الحال فقد أفرزت الثورة العربية راديكاليتن كانتا مغمورتين إلى غاية هبوب رياح الثورة، لكنهما كانتا متجسدتان ضمن إطار كتلتين اجتماعيتين كانتا هما الكتلتان الرئيستان في تحريك الجمهور العربي، استنادا إلى إقصائهما من الحقل لفترة طويلة كانت هي ذاتها الكفيلة بإفراز تلك الراديكاليتين، فما طبيعة هذا المولود الجديد الذي تمخضت عنه الثورة الحاصلة في البلاد العربية؟
إنهما بلا شك ومن خلال ما تقدّم راديكاليتا الدين والدنيا، أعني الراديكالية الدينية التي تعود رأسا إلى المرحلة التأسيسية للإسلام والنظام السياسي المعتمد في تلك اللحظة المتمثل في "الخلافة الإسلامية" اللاغية لحدود سايكس بيكو الناتجة عن إلغاء مصطفى كمال أتاتورك لنظام الخلافة، والتي كانت العنوان السياسي أيضا لنهاية عهد الإمارة الإسلامية على العالم، وهو رأي ينأى عنه اليوم الإسلاميون الصاعدون إلى مواقع الهيمنة في بعض البلاد العربية، تونس ومصر حيث اعتلى حزبا النهضة والعدالة الإسلاميان سدة الحكم في البلدين.
أما الثانية فهي الراديكالية الدنيوية التي انفتحت مباشرة على الواقع الاجتماعي الغربي بسماته النيوليبرالية ونموذج مابعد الأيديولوجيات، أو بعبارة أخرى فإن الراديكالية الدنيوية تقول بـ "اللاحزبية" التي تأتي ضمن نسق مابعد الحداثة المتسم بالذرائعية الصرفة والتشتت "تحت المؤسسي" بوصفه المرحلة الحضارية الأرقى، وهو الرأي الذي يعبّر عن وجهة نظر العلمانية العربية الصاعدة خلافا للعلمانية التقليدية أعني علمانية الأنظمة الآفلة والمعارضة التقليدية الصاعدة، ففي ليبيا حيث أفرز صندوق الانتخابات المحلية صعود العلمانيين، واليمن الذي يضم في "لقائه المشترك" جناحا علمانيا.
وهنا وجب الإيضاح بأن اللعبة الحقلية العربية لم تعد تقبل بالتقسيم العلماني والإسلامي ما قبل الثوري فلم يعد ممكنا مثلا التمييز بين النظامين "التونسي" و "السوداني" رغم الاختلاف الأيديولوجي البيّن بينهما، فالتقسيم صار مضاعفا:
أ- حقلي بنيوي: حيث مهيمنو عهد ماقبل الثورة ينضمان إلى الصنف المهيمن ذاته، إذ ومن رغم الاختلاف الإيديولوجي إلا أنه صار اختلافا صوريا، حيث صار المهيمنون كتلة اجتماعية واحدة بحكم الفعل الثوري.
ب- زمني تاريخي: حيث التماثل بين أيدلولوجيات ما قبل الثورة لم يعد إلا صوريا لا يتعدّ إلى حقيقة التكتلات الاجتماعية الفعلية التي تجلت جميعها للوجود خلال اللحظة الثورية.
هكذا فإن المشهد الحقلي للساحة السياسية العربية، صار مكونا من فئتين رئيسيتين تنقسم كل واحدة منهما إلى صنفين أيضا كما نبيّن:
1- كتلة بقايا الأنظمة السابقة التي تعمل على إعادة الوضع السابق لها كأقصى طموح، أو الإبقاء على مكاسبها الذاتية المباشرة كأدنى سقف للطموح.
2- كتلة المهيمنين الجدد الذين يسعون إلى التموقع ضمن الظرف الجديد، وذلك لفرض ذاتها بوصفها سلطة أمر واقع كأقصى طموح، أو تحقيق مكاسب من الوضع القائم ومن ثم الحفاظ عليها كأدنى حد للطموح.
وهذا التقسيم لا يخرج الفريقين عن أن يكونا معا في وضع المهيمن ضمن الحقل، وذلك لاشتراكهما في المصالح الظرفية، وذلك ما يجعل من إمكان التحالف بين الكتلتين قائما بفضل توفرهما على عاملي موارد القوة والخبرة الحقلية اللازمة أعني السمت ورأس المال المتعدّد خاصة الكتلة الأولى، وكذا الشرعية الشعبية التي تتمتع بها خاصة الكتلة الثانية، وما سيوحدهما كذلك هو مواجتهما للطامحين الجدد.
وإن عوامل القوة هذه كلها ستكون بمواجهة الطامحين من الراديكاليين الجدد الدينيين منهم والدنيويين الذين لا يملكون إلا تكتلاهم ذات النفوذ شبه المعدوم في دواليب الحقل السلطوي حيث الرأسمال الحقيقي الذي يعتمدونه يكمن في طبيعة "الخطاب الجديد" كرأسمال مفرد يراهن على اكتساب الجمهور بغض النظر عن مضمونه الذي بينا اختلافه مقدّما.
فإذا كانت كتلة الراديكاليين الدنيويين تمثل ذروة التفكير الديني في طلبه للاستخلاف حتى بلغت تخوم الغفلة عن الحقوق والعدالة بوصفهما مبدأي للرسالة الإسلامية، فإن الثانية مثّلت ذروة الفكر الغربي في طلبه للتعدد حتى بلغت تخوم الغفلة عن الحرية والإرادة الفردية بوصفهما مبدأي للتنوير الأوروبي.
والكتلتان الراديكاليتان اجتمعتا على تلازم موقفهما مع الموقف الفكري الصريح بشقيه الإسلامي والغربي، وإن بصورة عفوية غير واعية، وأما الهدف العفوي الثاني فهو عملي يتمثل في السعي إلى إعادة مؤسسات السلطة إلى وظائفها الأصلية وحجمها الطبيعي.
ختاما، لقد قرّر أبرز مفكرين عربيين أبويعرب المرزوقي ورضوان السيد أن السعي العفوي للثورة إنما كان إصلاح العلاقة مع الماضي عند الأول، وأنها تصالح مع الذات والعالم عند الثاني، حيث كانا مصيبين في التوصيف العام لغرض الثورة من حيث التناولين الفلسفي والتاريخي، أما التوصيف السوسيولوجي لهدف الثورة فإن القول بإعادة مؤسسات السلطة إلى وظائفها الأصلية وحجمها الطبيعي يمكن أن يجمل ذروة نظرية اجتماعية عربية ممكنة، أعني إعادة تأسيس شاملة للذات الاجتماعية العربية (نسبة إلى البلاد العربية)، وذلك ببناء "عقد اجتماعي" جديد يكون المستقبل فيه للطامحين الجدد في تحقيق التصالح بين عقد الاستخلاف الحر وبناء الفرد وإحقاق العدالة، وبعدها عودا إلى التصالح مع الماضي والعالم معا، فدون الإصلاح السياسي القائم على الإصلاح الفكري يتعذّر تأسيس أي اجتماع عربي يمكنه العودة إلى التاريخ وصناعة التاريخ.
0 التعليقات:
إرسال تعليق