أسباب النزول
ذات لقاء ثقافي منشغل بالسؤال السوسيولوجي، تقدم أحد الطلبة متدخلا، باعتماد آلية "مسح الطاولة"، لكن ليس وفقا لمنهج الشك الديكارتي، بل بآلية المحو و التبخيس، فقد "أفحم" الطالب الأساتذة المحاضرين بتدخله الذي انتهى فيه إلى التأكيد على أنه: "ليست هناك سوسيولوجيا، و ليس هناك سوسيولوجيون بالمغرب".
حاول الأساتذة المحاضرون المنافحة عن الحضور السوسيولوجي، و إقناع الطالب بقوة و أصالة المنجز المغربي، لكنه بدا غير مقتنع بإجاباتهم، حينها قلت مع نفسي، بأنه ليس ذنبه أن يلجأ إلى استعمال آلية "مسح الطاولة" و الانتصار لثقافة المحو. فهو، و كما تبين لي من خلال فتح نقاش قصير معه بعد انتهاء فعاليات اللقاء، لم يجد سبيلا إلى "مؤلف" يعرف بآل "حرفة عالم الاجتماع"، و لم يتمكن من الاطلاع على جملة من الرسائل و الأطروحات المهمة الممهورة بتوقيع آل السوسيولوجيا، كما أنه، لا يعرف كثيرا من الأسماء و المشاريع التي تعلن انتماءها إلى هذه "الصناعة المعرفية"، إنه عُسْر التداول السوسيولوجي.
حينها تلألأت الفكرة و تبلور مشروع الانكتاب، فما أحوج اللحظة الثقافية المغربية إلى أنطولوجيا تعرف بعلماء الاجتماع المغاربة، تقترب منهم و تكتشف منجزهم، و تفتح مساحات من النقاش حول مشاريعهم الفكرية و انتماءاتهم التخصصية.
فكيف تم تدبير زمن الانكتاب؟ لم يكن الأمر مرتبطا بأجندة زمنية محددة و صارمة، إنه كتاب انكتب متفرقا في الزمان و المكان، انكتب بهاجس التعريف و الاكتشاف. يمكن القول بأن تجميع مادته النصية و تنضيد بورتريهاته التعريفية امتد على نحو ست سنوات، كان فيها كل اشتغال جديد دعوة للانفتاح على أعمال طواها النسيان، و على مناطق ظل شخصية و معرفية لا نعرف عنها إلا القليل.
وجدتني في بعض اللحظات، كما ذلك الطالب إياه، أجرب دهشة البدء، و أنا أكتشف عوالم أخرى لعلماء اجتماع مغاربة، لم ينصفهم "الزمن"، و حاقت بهم "لعنة" عُسْر التداول التي تسم المشهد السوسيولوجي كثيرا، ثمة أعمال على درجة عليا من التميز، و ثمة مشاريع فكرية قوية، لكن "الاعتراف" بها و الانتصار لها يظل شرطا مؤجلا في ظل منطق "سوسيولوجيا الأفراد" لا "المشاريع بصيغة الجمع".
السوسيولوجيا معرفة شقية تعيش حالة استثناء، فبالرغم من عودة الدرس السوسيولوجي إلى عدد من الجامعات المغربية، بعد أزيد من عقدين، من حصر تدريسها بكليتي آداب الرباط و فاس، فإنها و بالرغم من هذه العودة المشروطة بهاجس الكم لا الكيف، ما زالت تعاني من مشكل تداولي عويص، لهذا تظل في حالة استثناء مع رفع الاستثناء.
فقليلة هي الأعمال التي تجد طريقها إلى النشر و تتحرر بالتالي من قدر الانسجان بين الرفوف و الأدراج، و قليلة هي اللحظات التي يبرز فيه الصوت السوسيولوجي مزاحما للسياسي و التكنوقراط، و مؤثرا بالتالي في صناعة الفعل و القرار الثقافي و الاجتماعي.
ما زالت السوسيولوجيا مغربيا، ممارسة نخبوية، و ما زال المنتمون إلى مدرستها القلقة في الظل، ضدا على كل الألق الذي يكونون قد راكموه دوليا لا محليا. ثمة أسباب متعددة الأبعاد تقف وراء هذه المحدودية من حيث التداول و الفعل، هناك البعد التاريخي المفتوح على الإقصاء و التهميش، بدءا من واقعة إغلاق معهد العلوم الاجتماعية، و حصر تدريسها بالرباط و فاس لا غير، و هناك البعد الذاتي الذي يجعل من هذا العلم بالمفرد لا الجمع، فنحن أمام مشاريع أفراد لا مدارس و تيارات. هذا فضلا عن معطى بنيوي عام يتعلق بإقالة المثقف، الشيء الذي ينتج عنه سيطرة شاملة للسياسي و داعية التقنية على الحقل التداولي.لكن كيف السبيل إلى استعادة الحضور السوسيولوجي؟ و كيف السبيل إلى جعله، واقعيا لا نظريا، رقما عصيا على الإزاحة و الإبعاد، في معادلات السياق التداولي و التدبيري أيضا؟
لا بد من التعريف أولا بهذه السوسيولوجيا، بأعلامها و مؤسسيها، باتجاهاتها و اختياراتها، و لا بد من الاعتراف بمنجز من بصموا مسارها، فهذا الكتاب، (في أول خطوه، لأنه مطالب باستئناف اجتهاده) يأتي في إطار ثقافة الاعتراف ضدا على ثقافة المحو التي كثيرا ما عانت منها السوسيولوجيا. مبرر آخر يقف وراء هذا الاشتغال، و هو متصل بعطب ثقافي قديم، و هو الاحتفاء و التكريم المتأخر، أو بكل أسف "الاعتراف الجنائزي" الذي يحدث بعد الرحيل.
إعمالا لثقافة الاعتراف و الاحتفاء، و ضدا على ثقافة المحو، و انتصارا لآل السوسيولوجيا من أصحاب المشاريع الرائدة و الرؤى الفكرية العميقة، يأتي هذا الكتاب لإصاخة السمع لعالم الاجتماع، لمساءلة مشروعه الفكري، و توسيع دوائر النقاش حول أسئلته الكبرى و رهاناته القصوى من وراء الانكتاب و التفكير و التفكيك. إنها محاولة، بمقدار ما، لبناء نفس ثقافي جديد تعددي و حواري، يقطع مع لغة الصوت الواحد، و يؤسس بالمقابل للسجال و التبادل و التداول النوعي للأفكار و الإبداعات السوسيولوجية.
و بما أن لكل فكرة ممكناتها و خطاطاتها الإجرائية، و تاريخ ممارساتها من قبل الأغيار أيضا، فإن هذه المساهمة تستند في انطراحها و انبنائها إلى آلية البورتريه، مع استدعاء كل الإشكالات و المآزق التي يطرحها هذا الاختيار.فما المبرر الموضوعي لاختيار هذا الإسم دون غيره؟ و هل كل من حاز شهادة عليا في علم الاجتماع يصير بالضرورة "عالم اجتماع"؟ و هل كل من نشر دراسة أو دراسات تنشغل بـ "الاجتماعي" يستحق حمل هذه الصفة؟
علماء الاجتماع ليسوا هم فقط المتحدرون من كليات الآداب (شعبة علم الاجتماع)، هناك أسماء تلتمع أكثر في رحاب العلم الاجتماعي، قادمة من الحقوق و الاقتصاد و التاريخ و السياسة، فالشهادة لا تمنح صفة الباحث في علم الاجتماع، بل الخطاب و الممارسة هما ما يبرر الصفة أو يلغي الانتساب إليها.
مع حسن رشيق و محمد الطوزي و محمد الناجي و المرحومة زكية زوانات و آخرين كُثُر سنكتشف مرات تلو المرات أن الانتماء إلى السوسيولوجيا و الأنثروبولوجيا ليس مشروطا بالضرورة، بالتخرج من شعب الفلسفة و علم الاجتماع، فثمة أسماء أخرى لم تعانق دروس جسوس بالرباط و لا حليم بفاس، و مع ذلك فقد جذرت مكانتها في خرائط مدرسة القلق، و حازت الاعتراف محليا و دوليا بأصالة و قوة أعمالها، فتماما كما أن حيازة الشهادة لا تصنع باحثا أصيلا، فإن اللا مرور من هذه الشعب لا يلغي أحقية الانتماء إلى "حرفة عالم الاجتماع".
عالم الاجتماع هو، و بالضرورة، من يحمل مشروعا في أعماقه، إنه جاء إلى مدرسة القلق السوسيولوجي بِهَمٍ و قَرَارٍ وُجوديين، و لم ينتم خطأ أو صدفة إليها، إنه يعمل باستمرار على تجذير و إثراء هذا الانتماء بحثا و تنظيرا و تأطيرا. عالم الاجتماع يفترض أن تتوفر فيه ثلاثة عناصر على الأقل، تبرر الاختيار موضوعيا لا ذرائعيا. فهناك في البدء المشروع أو مؤشرات المشروع، على اعتبار أن المشروع الفكري يظل في الغالب أملا مؤجلا لا يتبلور إلا بعد طول مراس و اشتغال، لهذا يظل "المشروع بصيغة الاشتغال داخل حقل ما، أو على قضايا معينة"
في مستوى ثان هناك شرط الإنتاجية التي تتجاوز نشر الأطروحة أو "بيضة الديك"، إلى تأكيد الاستمرارية، فعالم الاجتماع هو مدمن حرف و سؤال، و لا معنى له بعيدا عن الكتابة و البحث و التحليل، مع التأكيد على أصالة المنتوج و قوته، فالإنتاجية هنا تكون "إبداعية".
و هو ما يمهد بعدا للحديث عن الشرط الثالث المتعلق بالاستمرارية، التي نقصد بها استئنافات مشاريع الاشتغال و تأكيد الحضور، فثمة أسماء انتهت "سوسيولوجياً" بمجرد تحصلها على الشهادات، و أخرى تدمن الصمت و تنتهي عن الكتابة و الفعل، على الرغم من كونها في البدء تؤشر على إمكان التحول إلى قامات فكرية هامة في هذي "الصناعة المعرفية الثقيلة".
لكن محدودية الشرط المجالي للانكتاب، لن يسمح بالتأكيد بالاقتراب من كل الأصوات التي باتت تبصم مسار الممارسة السوسيولوجية، مما يجعل " الفكرة" تسقط بطريقة لا إرادوية في ثقافة المحو مرة أخرى. فهناك أجيال سابقة و أخرى لاحقة يصعب الانفتاح عليها كلية في هذا العمل المتواضع، فإنجاز أنطولوجيا (عبر بورتريهات مدعمة بنصوص مختارة) شاملة يستوجب جهدا أكبر و زمنا أطول، كما أنه مشروع لا ينكتب إلا إذا كان ممهورا بتوقيع الجمع لا المفرد.
لهذا وجب التأكيد على أن الأمر يتعلق بمحاولة أولية ستعقبها مشاريع قادمة تنتصر لأصوات أخرى من أجيال علم الاجتماع بالمغرب، فهذه المساهمة، كما كل الأسئلة السوسيولوجية، لا تحمل أمارة الوصية الأخيرة، و لا تدعي لنفسها الكمال أو الاكتمال، إنها مجرد نافذة مشرعة على تجارب و حيوات و مشاريع من قارة علم الاجتماع، بكثير من دهشة البداية و نسبية الممارسة.
و بذلك فإنها تأتي ببياضات أكبر، و بغير قليل من الانتقائية، و لربما الاختزالية في توضيب البورتريه الدال على صاحبه، و الذي قد لا يكون كذلك بالنسبة للقارئ أو حتى لصاحبه. إلا أنه و بالرغم من استشعار كل هذه المزالق، فلا مناص من الاستمرار في إثراء و تقوية آليات التداول السوسيولوجي، حتى تستعيد "حرفة عالم الاجتماع"، هنا و الآن، بعضا أو كلا من ألقها المفتقد.
و الله من وراء القصد.
فاس، فبراير 2013
0 التعليقات:
إرسال تعليق