الأربعاء، 16 أبريل 2014

مفاهيم سوسيولوجية حديثة 3 – ثقافة الألم The culture of pain

حسني إبراهيم عبد العظيم 

3 – ثقافــــة الألم The culture of pain

هيمنت النظريات البيولوجية والطبية التقليدية على تفسير طاهرة الألم الإنساني، وركزت على الأبعاد العصبية والفسيولوجية في تشخيصه وعلاجه. والحقيقة أن الطب العلمي قد اختزل خبرة الألم في بعدها العضوي باعتبارها نظاما معقدا من الإشارت العصبية، بدلا من النظر إلى هذه الخبرة كظاهرة اجتماعية تتشكل وفق سياق اجتماعي - ثقافي محدد. وعلى الرغم من أن الاهتمام بدراسة الألم يقع - وفق التحليل العلمي السليم - في منطقة مشتركة بين البيولوجيا والثقافة، مما يجعله موضوعا مهما في التحليل السوسيولوجي، إلا أننا نلاحظ أن اهتماما ضئيلا scant attention قد أُعطي لدور العوامل الثقافية خاصة المعتقدات حول الألم، وفي هذا الإطار يقول "موريس" Morris في كتابه ثقافة الألم The culture of pain الصادر في عام 1991 إن الألم ليس مجرد ظاهرة فسيولوجية وتشريحية فقط، وإنما هو نتيجة التفاعل بين العقل والجسد والثقافة. ويؤكد "موريس" في كتابه سالف الذكر أن النظرة الطبية أهملت جوانب مؤثرة في تحليل الألـــم تتعلق بأن الألم يتم تشكيله وتقييمه وفق عناصـــــر ثقافية محددة. ( (Bendelow and Williams 1995:139-140

إن الاختلاف بين النظرة الطبية للألم والنظرة السوسيو – أنثروبولوجية له تكمن في الاختلاف بين رؤية الألم كإحساس pain as sensation ورؤيته كعاطفة pain as emotion (وهو مفهوم أكثر ديناميكية من الإحساس) ففي إطار النموذج الطبي وهو النموذج المهيمن في تفسير الألم، والذي يتم تدريسه لطلاب الطب، ينظر للألم على أنه إحساس ينتقل عبر مستقبلات الألمpain receptors في الجلد إلى مركز الألم في المخ. أما الرؤية السوسيو- أنثروبولوجية للألم فقد لخصها "ميلزاك" و "وول" Melzack & Wall بقولهما: إن كلمة ألم تمثل طائفة من الخبرات المختلفة والفريدة التي تتأثر بقوة بالعوامل الاجتماعية والثقافية. (Bendelow and Williams 1995:142)

ولقد أوضحت الدراسات السوسيولوجية والأنثروبولوجية المتعاقبة أن الألم ظاهرة معقدة، تتأثر بالبناء الاجتماعي والثقافي والموروث التاريخي لكل مجتمع، وأن القدرة على تحمل الألم تتباين وفقا للثقافة والانتماء العرقي، فلقد قدم "ميلزاك" مثالا على الاختلاف في خبرة ولادة الطفل بين الثقافة الغربية والثقافة البدائية ممثلة في إحدى قبائل أمريكا الجنوبية، حيث كتب يقول:
(تعد عملية الولادة واحدة من أصعب الآلام التي يمكن أن تكابدها المرأة في المجتمع المعاصر، وقد لاحظ الأنثروبولوجي الأمريكي "كروبر" Kroeber أن النساء لا يظهرن أي إحساس بالألم أوالمعاناة أثناء الوضع، وبالإضافة إلى ذلك تستمر النسوة الحوامل في ممارسة العمل في الحقول حتى قبل الولادة بوقت قصير، وبعد الولادة تعود الأم إلى الحقل لاستئناف العمل، وقد يبقى الزوج مع الطفل لرعايته لحين عودة الأم. ويتساءل "ميلزاك" هل يعني ذلك أن النساء في ثقافتنا الغربية المعاصرة يتصنعن making up الألم؟ ويجيب بالطبع لا، إن ما يحدث هو جزء من ثقافتنا التي تنظر إلى عملية الولادة بأنها تمثل خطرا محتملا على صحة الأم وتتعلم الفتيات الصغيرات الخوف من الولادة في مراحل نموهن المختلفة) (Tuckett 1978: 167)

ويقدم "ميلزاك" مثالا آخر من الهند حيث يقول: "يعد طقس تعليق الخطاف (أوالسنارة) hook hanging - الذي ما زال يمارس في بعض مناطق الهند - واحدا من أغرب الأمثلة على تأثير القيم الثقافية على تحمل الألم، هذا الطقس مأخوذ أساسا من ممارسة قديمة ترتكز على اختيار أحد أفراد الجماعة الاجتماعية ليمثل قوة الآلهة. يتحدد دور الرجل المختار (أو الكاهن celebrant) هو مباركة الأطفال والمحاصيل الزراعية في عدد من القرى المتجاورة في فترة معينة من العام. المدهش في هذا الطقس أنه يُؤتى بعدة خطافات حديدية وتُشد بحبال قوية وتُربط في عربة خاصة، وتُغرز الخطافات تحت الجلد في جانبي الظهر، وتبدأ العربة في التحرك من قرية إلى قرية، وبالطبع يتحرك الرجل حيثما تتحرك العربة، وفي قمة الاحتفال بتأرجح الرجل في الهواء بطريقة شعائرية، وهو معلق بالخطافات المغروزة في ظهره، والغريب أنه لا توجد أية دلائل على أن الرجل يتألم أثتاء ذلك الطقس، بل إنه يكون في (حالة رفعة أو مجد a state of exaltation ) وعندما تخلع الخطافات في النهاية تشفى الجروح سريعا دون تدخل طبي باستثناء وضع رماد الخشب wood ash عليها، وبعد مرور اسبوعين تقريبا تختفي تماما آثار الجروح". Tuckett 1978: 167))

وفي دراسة كلاسيكية شهيرة أوضح "مارك سبورفسكي" M. Zborowski ان الأصول العرقية تلعب دورا مهما في تقبل الألم وتحمله، ففي هذه الدراسة التي أجريت على عينة من الأمريكيين القدامى Old Americans وعينة أخرى من أمريكيين من أصول يهودية وإيطالية، تبين أن الثقافتين اليهودية والإيطالية تطرحان إطارا محددا في التعامل مع المرض، يختلف عما تطرحة الثقافة الأمريكية، فالثقافتان اليهودية والإيطالية تسمحان للفرد بالتعبير الحر عن مشاعره وعواطفه بالكلمات والإشارات كما تسمحان بحرية التعبير عن الألم والمعاناة من خلال البكاء والأنين، فلا مجال للخجل من الشكوى، ويلاقي بذلك تعاطفا من أفراد أسرته. أما الثقافة الأمريكية فإنها تتعامل مع المرض بصورة موضوعية صارمة من خلال التحديد العلمي الدقيق له، ويتحاشى المريض إظهار الشكوى والمعاناة؛ لأن ذلك يتناقض مع المعايير المرتبطة بقوة الرجل وقدرته على التحمل. (Zboroweski 1952: 10)

إن استجابة المرضى الأمريكيين للألم ضعيفة؛ لأنهم يحاولون إيجاد أنسب الطرق لتحديد نوعية الألم، وعندما يذهب المريض للطبيب لكي يفحصه، فإنه يعطي انطباعه عن هذا الألم للطبيب ويصفه كاملا، ولا يصدر منه أي شكوى أو تأوه أو أنين، أما الإيطاليون واليهود فإنهم يبالغون في تصورهم للألم، ويكون رد الفعل العاطفي تجاه الألم شديدا جدا ومؤثرا. (نادية السيد عمر188:1993-189).

وبالإضافة لتأثير الثقافة والأصل العرقي على مكابدة الألم، فقد رصد علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا العديد من العوامل الأخرى المؤثرة في تلك العملية منها التعليم والبيئة الاجتماعية، فقد اتضح أن المرضى الأرقى تعليما يكونون أكثر معرفة بأعراض المرض وبالتالي أكثر توقعا للألم، والمرضى الأقل تعليما يكونون أكثر قلقا وبالتالي تزداد نسبة استجابتهم للألم، وأن استجابة الفرد للألم تتأثر إلى حد بعيد بالأفراد الذين يقابلهم الفرد في حياته وخاصة في مراحل الطفولة سواء من والديه أو المدرسة أو الأصدقاء، وكشف "ميكانيك" Mechanic أن اتجاهات الأم وأفكارها تلعب دورا أساسيا في استجابة الطفل للمرض والألم، وأن الأطفال الذكور لا يبالغون في شعورهم بالمرض مثل الإناث، (نادية السيد عمر192:1993-1 95).

ومن العوامل الأخرى التي رصدها الباحثون ما كشفت عنه دراسة عالم التخدير الأمريكي "بيكر" Beecherأنه لا توجد علاقة مباشرة بين الشدة الموضوعية (الفعلية) للمرض أو الإصابة والخبرة الذاتية للفرد بالألم أو عدم الراحة، فقد أجرى دراسته على عينة من الجنود الجرحى، وعينة أخرى من المرضى المدنيين يستعدون لإجراء عمليات جراحية، وكشفت الدراسة أن ثلث عينة الجنود فقط أرادوا إجراء لتخفيف الألم، في حين طلب 80% من المدنيين نفس الإجراء لتخفيف الألم، رغم أن معاناتهم أقل كثيرا من معاناة الجنود. وقد فسر "بيكر" ذلك التباين انطلاقا من فكرة الاختلاف في تعريف الألم في كلا المجموعتين. فالجندي الجريح جاء من ميدان القتال وربما كان من بين القتلى، ولذا فإنه يستخف بألم الجراحة، أما المدني فيرى الجراحة حدثا خطيرا، ولذا فإنه يبالغ في توقع الألم.(Mechanic 1978: 265) 

إن التباين الثقافي بين المجتمعات المختلفة يؤدي إلى تباين في اتجاهات الأفراد نحو الألم واستجابتهم له، ويمكن تقسيم هذه الاتجاهات إلى نمطين: اتجاهات توقع الألم pain expectancy واتجاهات تقبل الألم pain acceptance فمن الأمثلة على توقع الألم ذلك الألم المتوقع عند الولادة، والألم المتوقع في الحرب والنشاط الرياضي (توقع الإصابة) وهناك مثال يوضح الفرق بين توقع الألم وقبوله، فالألم يكون متوقعا عند الولادة، ولكنه قد يقبل في مجتمع ولا يقبل في مجتمع آخر حسب بنيته الثقافية، كما أن المجتمعات التي تركز على الانجازات العسكرية يمكن أن تتوقع ألام جروح الحرب وتتقبلها، ولكن المجتمعات التي تسودها قيم التسامح والسلام نجد أنها تتوقع الألم ولا تتقبله. (نادية السيد عمر192:1993).

الخلاصة من كل ما سبق أن الألم ظاهرة اجتماعية معقدة لا ترتبط فقط بالجوانب العضوية المجردة، وإنما تتجاوز ذلك إلى الأبعاد الاجتماعية والثقافية والعرقية، وقد أكدت الجهود الفكرية المتراكمة من جانب علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع هذه الحقيقة.

مفاهيم سوسيولوجية حديثة: (2) الهابيتوس (*)


حسني إبراهيم عبد العظيم


طرح عالم الاجتماع الفرنسي الكبيربيير بورديو(1930 – 2002) منظومة مفهومية جديدة new terminology في علم الاجتماع ترتكز عليها رؤيته للواقع ، وهي رؤية مغايرة في كثير من جوانبها للرؤية الكلاسيكية في علم الاجتماع .
فمن خلال سبعة وثلاثين كتاباً وما يناهز الأربعمائة مقالة ، قدم بورديو مصطلحات فنية صعبة تبدو للوهلة الأولى غامضة وصعبة المراس intractable بيد أن خلف هذه المفاهيم والمصطلحات المتنوعة والمربكة ، تكمن منظومة من المبادئ النظرية والأدوات التصورية والمقاصد العلمية والسياسية التي تمنح كتابات بورديو تماسكاً وانتظاماً ملحوظاً. (Waquant 2006:4) .

لقد أعاد بورديو قراءة المفاهيم الكلاسيكية في علم الاجتماع فأضفى عليها أبعاداً جديدة ومنحها آفاقاً سوسيولوجية أكثر اتساعاً ، كما أنه قام بصياغة مفاهيم جديدة أسهمت في إثراء المعجم السوسيولوجي ، ومن ثم تطوير النظرية في علم الاجتماع ، وسوف نناقش في هذا السياق واحدا من أهم مفاهيمه وأكثرها تعقيدا وهو مفهوم الهابيتوس.

يمثل الهابيتوس مفهوماً حاكماً في المشروع النظري لبيير بورديو ، وقد ظهر في أعماله المبكرة ، وقدم في كتاباته المختلفة تعريفات لا حصر لها وصياغات متنوعة لهذا المفهوم ، تعكس عمق تحليلاته وخصوبة تصوراته النظرية. (Throop Murphy 2002:186-187)

لقد أراد "برديو" من خلال صياغة هذا المفهوم أن يتجاوز ذلك التعارض العميق بين الموضوعية والذاتية ، الذي يمثل عقبة في سبيل تطور علم الاجتماع وانطلاقه لآفاق أوسع .فالنزعة الموضوعية تفترض أن الواقع الاجتماعي يتكون من مجموعة من العلاقات والقوى التي تفرض نفسها على الفاعلين، ولا تلتفت بحال إلى إرادة هؤلاء الفاعلين ووعيهم ، واستناداً إلى ذلك ينبغي على علم الاجتماع أن يقتفي أثر "دوركايم" في إدراك الظواهر الاجتماعية كأشياء والتركيز على النظم "الموضوعية" التي تحدد سلوك الأفراد واستجاباتهم، وعلى النقيض من ذلك تأخذ النزعة الذاتية من هذه الاستجابات أساساً لها، فوفقاً لهربرت بلومر H. Blumer وهارولد جارفنيكل ليس الواقع الاجتماعي إلا العدد الكلي من التفسيرات اللامتناهية للأحداث حيث يتفاعل الأفراد وفق المعاني المتفقين عليها. (Waquant 2006:6).

يعتقد بورديو أن التعارض بين الموضوعية والذاتية هو أمر مصطنع ومشوه mutilating فثمة علاقة جدلية بين الموضوعية والذاتية ، ولذا ينبغي أن يصيغ علماء الاجتماع توليفاً synthesis بين الموضوعية والذاتية ، ومن أجل تحقيق ذلك فقد صك بورديو ترسانة مفاهيمية Conceptual arsenal يأتي الهابيتوس في مقدمتها(Waquant 2006:6) .

يقول بورديو: لقد طورت مفهوم الهابيتوس للدمج بين البنى الموضوعية للمجتمع والأدوار الذاتية للأفراد الذين يعيشون فيه ، إن الهابيتوس هو مجموعة من الاستعدادات وصور من السلوك يكتسبها الأفراد من خلال التفاعل في المجتمع ، ويعكس المفهوم مختلف الأوضاع التي يشغلها الناس في مجتمعهم (Siisiainen:2000: )

فالهابيتوس هو نظام من الخطط الواعية وغير الواعية في التفكير والإدراك والاستعدادات التي تعمل كوسيط بين البنى"الموضوعية" والممارسة ... ويفسر الهابيتوس عملية إعادة انتاج الهيمنة الاجتماعية والثقافية، لأن الأفكار والأفعال التي يولدها تتوائم مع النظم الموضوعية أو النظم التي يمكن ملاحظتها إمبيريقياً في الواقع الاجتماعي (Mander 1987:428) .

وبذلك فإن مصطلح الهابيتوس يستخدم في الدلالة على مجموع الاستعدادات الجسدية والذهنية الدائمة التي تترتب على عملية التنشئة الاجتماعية للفرد، والتي تجعل منه فاعلاً اجتماعياً Social agent في إطار حقل أو مجال اجتماعي معين ، وتعمل هذه الاستعدادات باعتبارها نظاماً للخطط المولدة generative ، فهي مولدة لاستراتيجيات تكون مطابقة على نحو موضوعي لمصالح مؤلفيها، وتتشكل الاستعدادات من خلال تصور فئة معينة من الأفراد وتشربهم لنمط معين من أنماط الوجود ، ولذلك يتوسط مفهوم الهابيتوس بين البنى الموضوعية والممارسات ؛ لأن وظيفته هي أن يتجاوز التعارض بين الوعي واللاوعي ، بحيث يمكن القول إن الواقع الاجتماعي يوجد مرتين : في الأشياء ، وفي الأذهان ، في الحقول وفي الهابيتوس ، خارج الفاعلين وداخلهم ، ونتيجة لذلك يعبر الهابيتوس عن مواقف يتم فيها استدماج الواقع الخارجي بالنسبة للفرد ، والتجسيد الخارجي لذاتية ذلك الفرد. (أشرف عبد الوهاب 1999:106-105).
إن ثمة علاقة تبادلية بين قدرات الفرد واستعداداته (كما تتجلى في ممارساته) وبين البناء الاجتماعي ، فالهابيتوس كمجموعة من البنى المعرفية والإدراكية المستدمجة يتم إنتاجه في بيئة اجتماعية محددة ، وهذه البيئة يعاد إنتاجها من خلال قدرة الهابيتوس على التوليد generativity 2002:187 Throop& Murphy)).

واستناداً إلى ما سبق فإن الهابيتوس ليس مرتبطاً بتصورات الأفراد وخصائصهم واتجاهاتهم الشخصية فقط ، ولكنه مرتبطً أيضاً بالاستعدادات الجمعية مثل أنماط التفكير ، والإدراك ، والتقدير ، والممارسة ، ولذلك فإن الهابيتوس يؤثر في الأفعال اليومية مثل التذوق ، والملابس ، والأثاث ، والفن ، وعادات الاستهلاك ، وأنشطة وقت الفراغ لإنه نتاج ظروفه الموضوعية ذاتها (أشرف عبد الوهاب 1999:106).

ـــــــــــــ
(*) هذا المقال جزء من دراسة سابقة للباحث منشورة في المرجع التالي:
حسني إبراهيم عبد العظيم، الجسد والطبقة ورأس المال الثقافي: قراءة في سوسيولوجيا بيير بورديو، المجلة العربية لعلم الاجتماع(إضافات) العدد 15 صيف 2011.

مفاهيم سوسيولوجية حديثة: (1) صورة الجسد

حسني إبراهيم عبد العظيم

يتضمن المعجم السوسيولوجي المعاصر جملة من المفاهيم الجديدة التي لم تكن مطروحة في التراث الكلاسيكي، وتعكس هذه المفاهيم مدى تطور الدرس السوسيولوجي وارتياده لآفاق معرفية جديدة، وإيمانا من كاتب هذه السطور بأهمية المعرفة السوسيولوجية وضرورتها أيضا، فسوف يقدم إسهاما متواضعا يتضمن عرضا موجزا – على مدار حلقات - لبعض المفاهيم الحديثة في القاموس السوسيولوجي. وسوف يحرص الكاتب على تنوع هذه المفاهيم بحيث تعكس التطور الفكري لعلم الاجتماع، وعلى اعتبار أن سوسيولوجيا الجسد يمثل أحد النظم المعرفية الجديدة والواعدة في البحث السوسيولوجي فسيكون انطلاقنا منها في عرض المفاهيم.
صورة الجسد: Body Image

شغل الجسد الإنساني موقعاً متميزاً في جدل النظرية الاجتماعية على مدار العقدين الأخيرين، وذلك من خلال الأطروحات والمناقشات الواسعة التي قدمتها المداخل المتنوعة في النظرية الاجتماعية (Wilkin 2008: 35) فثمة احتفاء بالجسد باعتباره مفهوماً نابضاً Animating Concept من جهة، وحاضراً فعلياً في إطار الحداثة الراهنة من جهة أخرى، فهو يحتل مكانة عالية في تلك الحداثة، كما أنه يمثل مفتاحاً مهماً في تفسيراتها، فنحن نحتاج فقط أن نتأمل تلك الحقائق شديدة الوضوح المتعلقة بالخبرة الجسدية Bodily experience - والحقيقة أن كل خبرة هي خبرة جسدية بالضرورة - لنكون على وعي بالسمة الحقيقية للحياة المعاصرة. (Ferguson 1997: 1) ونتيجة لذلك فقد اتجهت العلوم الاجتماعية – والإنسانيات أيضاً- خلال العقود الأخيرة بشكل متزايد نحو استكشاف Exploration إشكالية الجسد في الحياة الاجتماعية؛ وذلك من أجل فهم تعقد مسارنا وتواصلنا التاريخي الإنساني. (Turner 1992: 31)

إن الجسد –كما يستخدم في المجال السوسيولوجي- لا يقصد به الجسد في خصائصه البيولوجية أو الفسيولوجية، أي مجموعة من الأعضاء والمهام المتراصة في تركيب طبيعي حسب قانون علم التشريح، وإنما يقصد به الجسد كمنتوج اجتماعي، كبناء اجتماعي- ثقافي، مجال تمثلات ومخيالات، أي الجسد في مظاهره وتعبيراته الخارجية الرمزية المكتسبة، المعبرة عن ثقافة الجماعة التي ينتمي إليها حامله. إن الجسد الطبيعي يختفي وراء شبكة من الرموز والطقوس والعلامات تبرزه على الواجهة الاجتماعية. (زينب المعادي 2004: 15)

إن التحليل السوسيولوجي الأنثروبولوجي المعاصر للجسد يميل إلى تجاهل العمليات «المادية» للجسد، باعتبار أن هذه العمليات تقع خارج دائرة اهتمام العلوم الاجتماعية، ويحاول الخطاب السوسيولوجي والأنثروبولوجي أن يعطي الأولية للطرق التي يصبح من خلالها الجسد موضوعاً للخطاب الرمزي. (Lyon 1997: 83) فالمقاربة السوسيولوجية الأنثروبولوجية لا تتعاطى مع الجسد باعتبارة كيانا عضويا فقط، وإنما باعتبارة بنية اجتماعية – ثقافية، وهو مايعرف بصورة الجسد.

يعرف معجم التراث الأمريكي The American Heritage Dictionary في طبعته الرابعة الصادرة عام 2000 "صورة الجسد" Body Image بأنها التصور الذاتي للفرد عن مظهره العضوي مرتكزا في هذا التصور على ملاحظته الذاتية ووجهة نظر الآخرين. وفي التراث العلمي تعد صورة الجسد مفهوما متعدد الأبعاد يتضمن الإدراك الذاتي للفرد واتجاهاته حيال مظهره العضوي، ويشمل أيضا الأبعاد المعرفية والسلوكية والوجدانية والتصورية. (Friedman& Martinez 2008:500)

ويستخدم مصطلح «صورة الجسد» لوصف كل الطرق التي يكون بها الفرد مفهوماً عن جسده، ويشعر به سواء بوعي أو بدون وعي، ويتضمن ذلك أحاسيس الفرد وتخيلاته عن جسده، بالإضافة إلى الأسلوب الذي يتعلم الشخص من خلاله تنظيم وتكامل خبراته الجسدية، ومن ثم فإن صورة الجسد هي شيء يكتسب بواسطة الشخص في جماعة أو مجتمع معين وذلك على الرغم من وجود اختلافات في هذه الصورة داخل المجتمع الواحد. (نجلاء خليل 2006: 222)

إن صورة الجسد ليست إلا الجسد كما يُرى، وكما يبدو في المجتمع، إنها انعكاس له، لكنها ليست الجسد ذاته، هي شيء أكبر من الجسد، أي أكبر من تلك البنية الفسيولوجية المترابطة، إن ثمة ترابط بين الجسد وصورته، وصورة الجسد هي أمر جوهري بالنسبة للجسد، بحيث لا يمكن فهم الجسد دون تلك الصورة التي يبدو عليها في الواقع، ولهذا؛ فإننا نصنع لأنفسنا صورة لكيفية ظهورنا للآخرين، إن صورة الجسد هي بنية عقلية Mental Construct لمظهرنا في المجتمع. (Ferguson 1997: 5-6)

يتبين إذن أن صورة الجسد هي مفهوم عقلي يعكس رؤية المجتمع للجسد، أي كيف يبدو الجسد ويظهر لأفراد المجتمع، وبمعنى آخر تعني الإنتاج الاجتماعي للجسد، فالجسد يتم إنتاجه اجتماعياً Socially produced ويتم تشكيله ثقافياً Culturally constructed. فعلى الرغم من أن الكيان العضوي للجسد متشابه بنائياً ووظيفياً لدى كل البشر، إلا أن القيم والمعتقدات والممارسات المرتبطة به تتباين تبعاً لتباين البنى الاجتماعية والنظم الثقافية للمجتمعات الإنسانية.